لم تعد الجدران مجرد مجاز لانعدام التواصل بين الشعوب، بل أصبحت واقعاً فولاذياً. وحتى كلمة فولاذي لم تعد مجرد مجاز، بل حقيقة مادية ملموسة
القاهرة ــ نائل الطوخي
لطالما كانت لأهل الحدود طرقهم الخاصة في تسيير أمورهم، يتصاهرون ويتزاوجون ويبيعون ويشترون (مثلاً، الحدود النوبية بين مصر والسودان، وعلاقات القبائل بين ليبيا ومصر)، ودائماً ما كانت السلطة في العاصمة بعيدة عن التدخل في حياتهم. لكن الحدود الشرقية لمصر هي أكثر من مجرد حدود، هي تطل على واحدة من أكبر المشكلات التي عرفها تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، غزة، وعلى واحدة من أكثر قضايا العرب إثارة، الصراع العربي الإسرائيلي. غزة قطاع محاصر، ذات يوم كان تابعاً للإدارة المصرية، كان مكتظاً بالبشر وبالفقر والتطرف، ومشحوناً سياسياً وإعلامياً، ويرتبط أهله بأواصر كبيرة مع أهل العريش ورفح من المصريين. هل يتبع ذلك القطاع لإسرائيل أم للسلطة الفلسطينية أم لحماس، أم أنه ما زال جزءاً من مصر؟ عوضاً عن البحث عن حل لكل هذه التعقيدات، كان الحل المصري الأمثل بإقامة جدار. بالجدار نمزق كل ما بين الفلسطينيين والمصريين، نلغي تاريخاً من الدم المختلط، ونريح أنفسنا من البحث عن حل. الجدار أسهل الحلول. وأكثرها حماقة. حتى تلاميذ المدارس والجنود الرابضون على الأسوار، يعرفون أن الجدران لم تمنع أحداً من القفز فوقها.
في التناول المصري لقضية الجدار الفولاذي، وبالتحديد في برنامج «القاهرة اليوم» الذي سبق أن نصح بقتل الجزائريين، يصبح لحصار الفلسطينيين هدف وطني: منع المخطط الإسرائيلي الذي يرمي إلى نقل الفلسطينيين إلى العريش وإخلاء غزة. ببناء الجدار الفولاذي ستمنع الحكومة المصرية الفلسطينيين من مغادرة أرضهم، حتى لو ماتوا فيها جوعاً، ولو حوصروا. الفلسطيني الجيد، كما يؤمن البعض مع غولدا مائير، هو الفلسطيني الميت، الذي يقاوم ولا يأكل، يستشهد ولا ينشغل بأمور الدنيا، لا يحتاج أغطية بالليل، فقط يقاوم، فقط يموت.
لطالما هرّب السلاح من السودان في التسعينيات، وهو السلاح الذي نُفّذت به بعض العمليات الإرهابية، والمزيد من عمليات الثأر بين العائلات المتناحرة في الصعيد، ولكن مصر لم تبن جداراً بينها وبين السودان، ربما لأن السودان ليست غزة، ولأن ليس هناك إسرائيل سودانية تستخدم عمليات التهريب كورقة تفاوض معها. لا أحد يعرف بالانتهاك السوداني للحدود المصرية، ولا أحد يهتم بالانتهاك الإسرائيلي للحدود المصرية، فقط الانتهاك الفلسطيني لتلك الحدود هو ما يُوصّف بـ«قضية أمن قومي»، تطالب فيه مصر، بهية، الأنثى، الفلاحة، بالدفاع عن شرفها أمام الآخرين، وببناء حزام عفة جبار يمنع من اختراق جسدها الرقيق.
منذ نحو شهر، بالتحديد في الثاني من كانون الأول الماضي، تجمع عدد من الشعراء اليهود والعرب أمام الجدار العازل في قرية أبو ديس بالقدس الشرقية، وقرأوا بعض القصائد الاحتجاجية ضد الجدار الذي يلتهم جزءاً من الأراضي الفلسطينية، ويحبس الفلسطينيين وراءه، ويحبس الإسرائيليين وراءه، هذا حدث في الوقت الذي كانت مصر تستعد فيه لتكرار التجربة الإسرائيلية الرائدة.
شكراً مصر، لست متأكداً من أنني فخور بك تماماً.