منذ أشهر يقبع في السجون الإسرائيلية أفراد من قرية عبدة بتهمة تخريب متعمّد للآثار في موقع عبدة، الذي يعود إلى الفترة النبطية، والمصنّف على لائحة التراث العالمي. التخريب حصل على الموقع، ولكن هل من يبحث في الأسباب الحقيقية لذلك العمل؟
عبدة ــ أسامة العيسة
لا يأبه السيّاح الذين يزورون موقع عبدة النبطي، في النقب الجنوبي، ببيوت الصفيح القريبة من قلعة النبطيّين المهيبة، التي ترتفع 600م عن سطح البحر، ويعود تأسيسها إلى قرنين قبل ميلاد المسيح. السيّاح يرون أن وجود البدو في المكان جزء من المشهد الصحراوي، ولكن ما لا يعرفونه أنّ قرية عبدة العربية تُعدّ واحدة من أكثر من أربعين تجمّعاً سكانياً فلسطينياً في إسرائيل تحمل صفة «غير المعترف بها»، وهذا يعني حرمان سكانها الخدمات كالكهرباء والماء وحظر البناء، وتُمارَس بحق السكان عمليات تطهير عرقيّ منظمة. وقد تكوّنت كثير من هذه القرى الفلسطينية في منطقة النقب الجنوبي بعدما استولت العصابات الصهيونية على أراضيها إثر قيام إسرائيل، فتشتّتوا لاجئين في وطنهم، وأقاموا في تجمعات توقعوا أنها ستكون مؤقتة، إلا أنها استمرت أكثر من ستين عاماً.
وفي النقب، الذي مثّل حلماً فريداً لأبي إسرائيل الحديثة، بن غوريون، تعاملت السلطات الإسرائيلية مع سكانها، كهنود حمر، يجب التخلص منهم، أو تجمعيهم في «محميّات» خاصة، وأيّ تجمع لهم خارجها، هو غير شرعي.
لا يمكن حصر الانتهاكات الإسرائيلية بحق أهالي عبدة، حيث كان آخرها في شهر تشرين الثاني 2009، حين هدمت السلطات الإسرائيلية 4 منازل في القرية بدعوى أنها غير مرخصة. ومثل كلّ مرة قاوم أهالي عبدة هذا الإجراء، فقُمعوا ونُقل بعضهم إلى المشافي. ولكن ما أثار الجدل الدولي هو الاعتداءات التي قام بها مجهولون على الموقع الأثري النبطي الذي غيرت إسرائيل اسمه إلى «أفدات». وبالطبع، أطلقت السلطات الإسرائيلية الحملة ضد تدمير الموقع، الذي أدرجته اليونسكو على لائحة التراث العالمي، والذي وصف ما حدث «بالمذبحة الأثرية». فقد عمد المخربون إلى إزالة نقوش عمرها 2000 سنة. بعد الاعتداء على الموقع، اعتقلت السلطات الإسرائيلية لباد طاسان، رئيس اللجنة المحلية في قرية عبدة، وسليمان السنطاوي حارس الموقع الأثري، «بتهمة تخريب الآثار في الموقع انتقاماً للممارسات الإسرائيلية بحق قريتهم المهمّشة».
وتوقفت القصّة هنا في الإعلام الإسرائيلي. ولكن مصادر القرى المهمّشة تضع الأمر في خانة السياق الانتقامي لردع السكان عن المطالبة بحقوقهم. فطاسان، معروف بنشاطه الذي لا يعرف الكلل ضد الممارسات الإسرائيلية بحق القرى غير المعترف بها، وهو شخصية اجتماعية معروفة في الوسط العربي داخل أراضي الـ48، وفي الليلة التي وقعت فيها عملية التخريب كان في زيارة إلى إحدى الشخصيات السياسية، برفقة وجهاء من النقب، أما السنطاوي، فهو حارس للموقع منذ سنين، ومن المستبعد أن تكون له علاقة بتخريبه. وهذا ما أكده إبراهيم الوقيلي، رئيس المجلس الإقليمي للقرى غير المعترف بها، الذي قال إن عملية تخريب الآثار أتت لردع السكان عن المطالبة بحقوقهم، وتغطية لعمليات الهدم التي تقوم بها وزارة الداخلية. هنا، تجدر الإشارة إلى أن هذه القرى بدأت تحظى باهتمام متزايد من المنظمات الحقوقية العالمية، ما اضطر وزارة الخارجية الإسرائيلية أكثر من مرة إلى تقديم توضيحات حول واقع القرى المهمشة التي تعيش خارج الزمن.
مصادر عربية داخل إسرائيل ترجّح أنّ يهوداً متطرفين خربوا الآثار، تمهيداًً لحملة جديدة ضد العرب في النقب لتهجيرهم، وتقديمهم إلى الرأي العام الإسرائيلي باعتبارهم «همجاً ومجرمين».
القصة التي تختلط فيها السياسة والانتقام سبّبت ضرراً كبيراً لثاني أكبر مدينة بناها الأنباط على طريق قوافل الحرير بعد البتراء. فقلعة عبدة تربط موانئ العالم القديم على البحر الأحمر كأم الرشراش (إيلات)، وغزة على البحر المتوسط بمدن الداخل المصري والسوري. وتتحكّم هذه القلعة في هذه الطرق التي سارت عليها القوافل المحملة بالبهارات والبخور والعطور والأحجار الكريمة.
الموقع الذي بدأت الحفريات الأثرية فيه عام 1871 يحوي آثار حضارات عدة، فهناك آثار رومانية وأخرى بيزنطية، ويبدو أن المدينة حققت مجداً غير مسبوق في تلك الفترة. هناك الدير وكنيسة القديس ثيودوروس، وكنيسة أخرى تعرف بالكنيسة الشمالية، التي ما زالت تحتفظ بجرن المعمودية القديم المحفور على شكل صليب، واستُخدمت حجارة نبطية في بناء هذه الكنيسة، الأمر الذي جعل الآثاريّين يرجّحون أنها بنيت على بقايا معبد نبطي، وتؤكد ذلك تيجان الأعمدة والكتابة النبطية ورسوم للطيور. المثير في حكاية عبدة، هو كونها واحة وسط الصحراء، تتميز بعين الماء الغزيرة، تلك التي تروي اليوم الكيبوتس اليهودي (سيدي بوكر)، الذي اكتسب شهرة من إقامة بن غوريون فيه ودفنه هناك وزوجته. وكان بن غوريون قد حلم بتحويل النقب إلى جنة يسكنها اليهود فحسب، ولا يحتاج المرء إلا إلى مقارنة أوضاع الكيبوتسات اليهودية القريبة من عبدة، بحال القرية العربية العطشى، ليتحقق من ذلك، فيما يعتقد أهلها أن تهمة تخريب الآثار لأسباب انتقامية التي أُلصقت بهم، لن تكون آخر الاتهامات الإسرائيلية في حقّهم.