دفع الشعب اللبناني حتى اليوم نحو 50 مليون دولار لتغطية نفقات المحكمة الدولية، لكشف قَتلة الرئيس رفيق الحريري ومعاقبتهم. سيغادر رئيس قسم التحقيق نيك كالداس المحكمة، بعد أن كان قد غادرها قبله قاض، والمقرّر ومتحدثة باسمها ... وما زال القتلة مجهولين أحراراً
عمر نشّابة
«يؤسفني مغادرة المحكمة ومكتب المدعي العام وفريق المحقّقين. لكن عندما عيّنني المدعي العام في منصب مدير قسم التحقيق، قبلت العرض على أن أعمل عاماً واحداً فقط حتى نهاية شهر شباط 2010، وأعود إلى منصبي في أوستراليا». قال رئيس قسم التحقيق في مكتب المدعي العام الدولي نيك (نجيب) كالداس. وأضاف: «إنني فخور جداً لعملي قرابة عام في مكتب المدعي العام (...) وأغادر وأنا أشعر بالتفاؤل الذي عبّر عنه المدعي العام بشأن التقدّم الذي أحرزناه وما زلنا نحرزه في التحقيق، وإنني واثق بأن الفريق المحترف الذي سيبقى سوف ينجز العمل المطلوب».
كلام كالداس المعسول لا يخفي الحقيقة المرّة عن عجز فريق المدعي العام الدولي الكندي، دانيال بلمار. فبعد مرور نحو خمس سنوات على وقوع جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري (14 شباط 2005)، تخلّلتها تحقيقات مكثّفة أجرتها السلطات القضائية والأمنية اللبنانية على أعلى مستوى (إذ كانت القضية قد أحيلت على المجلس العدلي) وتحقيقات دولية شارك فيها مئات الخبراء والأمنيّين بمختلف الاختصاصات، بدءاً بفريق تقصي الحقائق برئاسة الإيرلندي بيتر فيتزجيرالد، إلى لجنة التحقيق الدولية برئاسة البلجيكي سيرج براميرتس، مروراً بتحقيقات «الثعلب الألماني» ديتليف ميليس (التي شُكّك في صدقيّتها)، وانتهاءً بتحقيقات الأوسترالي كالداس، لم يتمكّن بلمار حتى اليوم من تقديم ملف إلى قاضي الإجراءات التمهيدية دانيال فرانسين، يسمح بإصدار مضبطة اتهام. لكن رغم ذلك أكّد أمس مسؤول رفيع في المحكمة أن «حقيبة بلمار مليئة بالمستندات، وهو يعمل على تنظيمها وتدعيمها بأدلة إضافية تشجّع على إقناع فرانسين بالمضي فيها». وتابع المسؤول قائلاً «لن تتضمّن مضبطة الاتهام حزب الله أو المقاومة أو سوريا أو أيّ حزب أو تنظيم أو تيار بل أسماء أشخاص. لكن يتوقع أن تثار ضجة إعلامية غير مسبوقة، فالبعض سيدّعي أن فلاناً مقرّب أو منتمٍ إلى جهة معيّنة، بينما قد يكون ذلك إما غير صحيح، وإمّا أنْ لا علاقة بين الاتهام بالضلوع في ارتكاب جريمة والانتماء السياسي أو الاجتماعي أو الطائفي».
على أي حال عبّر بلمار أمس عن أسفه لعدم تمكّن كالداس من تمديد عقده لفترة إضافية قائلاً: «أقدّم شكري وتقديري الصادقين إلى السيد كالداس، لمساهمته البارزة في عمل مكتب المدعي العام، ولقيادته وتفانيه في خلال عمله معنا، وأتمنى له النجاح الدائم». وأضاف: «سوف نفتقد كالداس، لكن عملنا مستمر بالوتيرة التي حدّدناها، وسأبادر قريباً إلى اختيار مدير جديد لقسم التحقيق يحل محل السيد كالداس».

الوقت الضائع

المستغرب في تصريح بلمار قوله إنه سوف يبادر «قريباً» إلى اختيار بديل لكالداس، فلماذا لا يبادر «فوراً» إلى ذلك، حتى قبل أن يحين موعد انتهاء التعاقد مع كالداس في 28 شباط المقبل؟ ألا يُعدّ التأجيل مضيعة لوقت ثمين يسدّد خلاله اللبنانيون 49 بالمئة من ميزانية المحكمة؟ ألن تستغرق مدة تعيين البديل أشهراً؟ وبعد ذلك، ألن يحتاج رئيس المحقّقين الجديد إلى أشهُر لقراءة الملفات بدقة، والتعرّف إلى الوقائع والإجراءات، والتنسيق مع أعضاء فريقه؟

«فوق الشبهات»

حقيبة بلمار مليئة بالمستندات وهو يعمل على تنظيمها وتدعيمها بأدلة إضافية
أجاب مكتب بلمار عن أسئلة وجّهتها إليه «الأخبار» أمس على النحو الآتي:
■ لماذا لم يمدَّد التعاقد مع كالداس؟ هل أصرّت السلطات الأوسترالية على عودته إلى وظيفته؟
«لا موانع أمام تجديد التعاقد مع كالداس، لكنه كان قد أعلن، قبل قبوله التوظيف في مكتب المدعي العام، أنه سيتولى المهمة عاماً واحداً فقط، يعود بعده إلى وظيفته في أوستراليا».
لكن ألا يستغرب مهنياً تعيين رئيس فريق التحقيق عاماً واحداً فقط؟ هل كان بلمار يعتقد أن التحقيق سينتهي خلال هذه المدة؟ وإذا كانت تلك هي الحال فلماذا لم ينتهِ التحقيق؟
■ كيف تؤثّر التغييرات التي شهدها فريق التحقيق من فيتزجيرالد إلى ميليس إلى بلمار إلى كالداس في التحقيق نفسه؟ بعبارات أخرى، ألا يسهّل ذلك تسريب معلومات عن التحقيق؟ ألا يؤثر في الاستمرارية الضرورية في أي تحقيق أو بحث؟
«لن تتأثر أعمال التحقيق بأي شكل من الأشكال بسبب تغيير الموظفين، لأن هناك استمرارية مؤسساتية، وسيستمرّ العمل بقيادة المدعي العام، كما هي الحال منذ انطلاق مكتب المدعي العام، وبرؤيته ووتيرته. أمّا بالنسبة إلى خطر التسريب، فمن البديهيّ استغرابنا لذلك، لأن صدقيّة كالداس والمسؤولين الآخرين في مكتب المدعي العام فوق أيّة شبهات (above any suspicion)».
اللافت في جواب مكتب المدعي العام استخدامه لغة تتنافى مع مبدأ المساءلة والمحاسبة القضائية، إذ إنّ القول إن «المسؤولين في مكتب المدعي العام فوق أية الشبهات» كلام فيه تجبّر، وإيحاء بأن هؤلاء لا يخضعون للمساءلة والمحاسبة.
■ هذه رابع استقالة خلال أشهر قليلة. كيف تفسرون ذلك؟
«أولاً كالداس لم يستقِل. ثانياً ليس هناك ما يدعو إلى القلق فما حصل يحصل في أيّ مؤسسة أخرى، يغادر موظفون لأسباب متنوّعة، ومن حقّهم أن يغادروا لأسباب عائلية، أو لأنهم يريدون السعي إلى فرص عمل أخرى. إلا أن المؤسسة لا تتأثر بتبديل الموظفين، وينطبق ذلك على كلّ الإدارات والمؤسسات».
جواب مكتب المدعي العام لا يأخذ الأصول المهنية في التحقيقات الجنائية بعين الاعتبار، إذ إن معظم الأكاديميّين والخبراء في العدالة الجنائية يجمعون على تعريف الجوانب السلبية الناتجة من تغيير رئيس فريق تحقيق وأعضائه في الجرائم المعقّدة. فعلى سبيل المثال، ألا يعتقد بلمار أن استبدال كالداس سيستغرق أشهراً؟ ألا يعدّ التأخير سلبياً؟ أم أن على اللبنانيين أن يسدّدوا من جيوبهم نصف رواتب الموظفين في المحكمة خلال تلك الأشهر بانتظار كالداس الجديد، وطبعاً لا يُعدّ ذلك سلبياً لموظفي المحكمة؟
■ كان بلمار قد أصرّ على تعيين كالداس، حتى قبل ختم تحقيق في أوستراليا، كان كالداس مشتبهاً فيه (حيث بُرّئ لاحقاً) وكانت تلك إشارة إلى آمال كبيرة كان بلمار قد وضعها في مساهمات كالداس في التحقيق. ماذا حصل؟ هل يمثّل ذلك مشكلة لبلمار اليوم؟
«قطعاً لا. السيد بلمار كان دائماً ولا يزال يقدّر عالياً السيد كالداس ومهنيته، كما يقدّر مساهمة كالداس في التحقيق، وعمله في مكتب المدعي العام».


موسم الرحيل من لاهاي

بعد استقالة مقرّر المحكمة الدولية البريطاني روبن فنسنت في 21 نيسان 2009 وأحد أبرز قضاتها هاورد موريسون في 14 آب 2009 والمتحدثة باسمها الفلسطينية سوزان خان في 6 آب 2009، جاء دور رئيس المحققين في مكتب المدعي العام الدولي الأوسترالي من أصل مصري نيك (نجيب) كالداس الذي سيغادر لاهاي في 28 شباط المقبل. وكانت «الأخبار» قد طرحت أسئلة عن أسباب الاستقالات الثلاثة لكن الأجوبة التي جمعت من رئيس المحكمة أنطونيو كاسيزي ومن مسؤولين آخرين في المحكمة، جاءت متناقضة، وخصوصاً بشأن استقالة فنسنت. فكاسيزي قال لـ«الأخبار» في 22 نيسان 2009 إن الأسباب «شخصية وعائلية» بينما أكد مسؤولون آخرون بينهم فنسنت نفسه، أن الأسباب مهنية تتعلّق بخلافات بينه وبين المدعي العام الدولي الكندي دانيال بلمار. وشرح مكتب التواصل في المحكمة أن استقالة خان جاءت بسبب اضطرارها إلى الانتقال مع عائلتها الى لندن. أما بخصوص استقالة موريسون وانتقاله الى المحكمة الدولية ليوغوسلافيا السابقة، فلم يصدر رسمياً عن المحكمة أي تفسير.