«ممرضة»
ضحى شمس
«ممكن تفتحي شباكك شوية يا حجة»، قلت للراكبة في المقعد أمامي لأن سائق الفان الذي كنا فيه، كان يدخن. «تكرم عينك»، ردت السيدة التي تغطي رأسها بمنديل أحمر عقدته تحت الذقن. لكن، ما إن قلت «يا حجة»، واستدارت السيدة لترد علي، حتى شعرت بأن الكلمة وقعت على أرض غير مناسبة، مع أني أعلم أنه في الفان، الذي ينطلق عادة من الضاحية الجنوبية ذات الأغلبية الملتزمة دينياً، كل النساء هن إما حجّات وإما مشاريع حجات. فصفة «حاجة»، تماماً مثل مناداة الذكر للأنثى «يا أختي»، تطلق من باب الاحترام، وكنوع من إعلان «حسن نوايا»، ولو أن شكل المنادى عليها، مثلي، لا علاقة له بالمظهر الديني الملتزم. كان شكل السيدة الستينية أقرب إلى مطابقة صفة «حاجة» عليها مني، برغم أنها لم تكن في تلك الملابس التي تلجأ إليها النساء ما إن يلتزمن، أو يتجاوزن الخمسين وأحياناً أقل. لكن لسبب ما، ربما تعبير وجهها حين استدارت لتكلمني، أو منديلها الأحمر، المتناقض مع المتوخى من غطاء الرأس، هو ما جعلني أحس بأن الكلمة رنت في غير مكانها.
لكنها، ما إن فتحت الشباك على اتساعه متجاوبة مع طلبي، حتى عادت لتقفل نصفه، بعد هبوب الهواء بارداً من الخارج، متلفتة مرة أخرى صوبي معتذرة: «برد ما تواخذيني، ما عدت صبية متلك». مردفة بروح مرحة: «أيا ليت الشباب يعود يوماً... أي يوماً؟ ولو ساعة واحدة حتى نزّل من فوق، وطلّع من تحت!».
لو كنا في فيلم رسوم متحركة، لكان الرسام رسمنا، بقية الركاب وأنا، وقد جحظت عيوننا، ثم قفزت من محاجرنا منطلقة باتجاه «الحاجة» حين قالت تلك العبارة، لتعود إلى مكانها كما لو كانت مربوطة بمطاطة علامة عدم تصديق ما سمعناه! لم أتمالك نفسي من السؤال: «عفواً يا حجة؟ شو اللي بدك تنزليه من فوق وتطلعيه من تحت، ما فهمت؟». تلتفت صوبي فألاحظ للمرة الأولى كحلاً في عينيها الصغيرتين المرحتين وهي تجيب: «بدي إلبس متل صبايا اليوم... كثير حلوة موضة صبايا اليوم، أحلى من أيامنا. بدي نزّل من فوق، من القَبة يعني، وعلّي من تحت يعني قصّر تنورتي»! وعلى رنة ضحكاتنا، تستطرد متشجعة: «والله لألبسها شبر مش أكثر». ثم تضحك مرة أخرى وهي ترمق بشيء من القلق الراكب المتجهّم إلى جانبها، الوحيد الذي لم يكن يضحك لِما كانت تقوله. لا بل إن الرجل الذي كان يلبس السواد من «ساسو لراسو»، بدا كمن يحاول أن ينأى عن جارته على المقعد. كأن مجرد احتكاك ثيابه بثيابها غير مستحب. ومع أن العاشر من محرم مرّ منذ أيام، إلا أنه على غرار السائق، الذي أدار شريط كاسيت لطميات عاشورائية، كان لا يزال في حداد.
هكذا، وما إن قالت ما قالته حتى تنحنح كأنما زاجراً، فإذ بها تستجيب لهذه النحنحنة المضاعفة الذكورة، كونها آتية من رجل متجهم ومتدين، فـ«تجمد بأرضها» للحظات، ثم تتمتم متنهدة كما يفعل المصلّون الخارجون للتو من مناجاة روحية: «شو بيعرفني! الحمد لله على كل شي، ياااا رب رضاك!».
لكن حشريتي لم تكن قد ارتوت، فعدت إلى التحرش بها: «وشو كان دارج على إيامك يا حجة؟»، سألتها. لم يعجب استئناف الكلام «الحاج» الذي بدا أن السماحة وحس النكتة ليسا من ميزاته، فتنحنح مرة أخرى، وزاد متمتماً بأدعية!
لكن هيهات... ما إن سألتها، حتى اندفعت بالكلام بشوق: «هوهووه! شو بدي قللك لقلك؟ التنانير العشرة سنتم؟ الشعر الشينيون؟ الكولانات الشبك، الكعب أبو 15سنتم، الباروكات (الشعر المستعار) أحمر أشقر ذهبي». ثم تضيف وقد شع وجهها للذكرى: «الشقار شقار، البياض بياض، إيه والله، أيا ليت الشباب يعود يوماً»، ثم تعدّل المنديل الأحمر الذي دفعه الهواء فانزلق عن شعرها. كان الراكب المتجهم قد وصل فأوقف الفان، ثم نزل بسرعة الهارب من الجحيم صافقاً الباب خلفه كالصفعة. عندها «تنطلق» السيدة على سجيتها وسط ضحكات الركاب، الجزائرية وزوجها اللبناني في الخلف، السائق وراكب إلى جانبه وصبي مراهق. ثم تستدير لتسألني فجأة: «سامعة بالميكروجيب؟»، أجيبها متجاهلة أن لا. فتنطلق بالشرح: «وحياتك لهون التنورة»، تقول وهي تضع كفها على أعلى ساقها مردفة: «كأنك بالزلط». ثم تأخذها حماسة تسم عادة الشخصيات الهامشية حين تحس انتباهاً ممن حولها، فتردف: «كنا نتزلط قد ما بدنا، ولك أيام كنت ما إلبس شي... يللا»! أسألها وأنا ما زلت أضحك: «ولو؟ كيف ولا شي؟». فتجيب: «وحياتك». تصمت للحظة ثم تلتفت إلي وتسألني: «حبيتك كثير وينك رايحة؟ على شغلك؟ شو بتشتغلي؟». أقول لها إني أشتغل «بالكونكورد»، ثم أسألها: «وأنت يا حجة؟». فترد: «أي شغل؟ كنت أشتغل، هلق خلص»، فأسألها: «وشو كنت تشتغلي؟». تنظر إليّ بعينيها المرحتين كأنني فاجأتها، تتردد لثانية قبل أن تجيب: «مين؟ أنا؟ ممرضة». تقولها بالفصحى، ثم تضحك ملياً كأنها قالت للتو نكتة في غاية الظرف!