خليل صويلح
بعد طول ترحال على دروب المنفى، استقرّ منير الشعراني في دمشق أخيراً، ليؤسّس مشغلاً للخط العربي، في مبادرة استثنائية لإحياء وتطوير هذا الفن الذي أصابه الإهمال. هكذا عاد إلى حي المهاجرين الدمشقي الذي شهد طفولته الأولى. «كنت استقلّ الترامواي إلى حي البحصة، ومن هناك إلى سوق الحميدية، أتفرّج مسحوراً على الخطوط في واجهات الدكاكين».
مصادفة قادته إلى مشغل محمد بدوي الديراني، كبير خطاطي الشام، بالقرب من الجامع الأموي: «وقفت هناك مذهولاً أمام اللوحات التي تتصدّر الواجهة». وحين انتبه الديراني إلى طفل العاشرة الذي طالت وقفته، استدعاه إلى الداخل، وسأله إن كان يرغب في تعلّم كتابة الخط. هزّ الطفل رأسه بالإيجاب، فطلب منه إحضار كراسة خاصة بالخط، وأعطاه «دوّاية وقصبة»، إضافة إلى فرض منزلي للتدرّب على كتابتها، على أن يعيدها خمسين مرةً.
بعد أسبوع، أنجز منير ما هو مطلوب منه، وعاد مرةً ثانية إلى «شيخ الكار». لكن هذه «الوظيفة» تطلّبت ستة أشهر كاملة لتصحيح أخطاء الطفل في كتابة الحروف كما ينبغي، واختبار قدرته على الصبر والمثابرة والدأب. في الثالثة عشرة افتتح منير محلاً خاصاً به، وتعهّد كتابة «الآرمات» في الأماكن العامة، ولم يجرؤ على وضع إمضائه على الخطوط التي كان يبتكرها إلا بعد رحيل معلمه «البدوي». بعد حصوله على البكالوريا، لم يتردد في الانتساب إلى كلية الفنون الجميلة في دمشق، ليتخصص في قسم الإعلان والتصميم الزخرفي. فوجئ أستاذ مادة الخط بموهبته ونضجه، وحين علم أنه من تلاميذ الخطاط بدوي، قال له مستغرباً «إذا كان معلمك بدوي، فما الذي تفعله هنا؟».
كان هاجس الشعراني حينئذٍ تصميم حروف طباعية جديدة وابتكار خطوط تواكب تطلعاته في تطوير الخط العربي، لتكون الأرضية الأولى لمشروع تخرّجه من كلية الفنون الجميلة. لكنّ هوىً سياسياً غيّر اتجاه سفينته فجأة، فانكبّ على مشروعٍ آخر هو النضال السياسي الذي جعله يذوق طعم القمع والملاحقة. بات الفنان الشاب مطلوباً، فهرب إلى بيروت. في العاصمة اللبنانية، عمل مصمّماً للأغلفة في «دار ابن رشد»، ثم «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، و«التنوير»، و«الكلمة»، وكان أوّل مصمّم يعتمد الخط العربي ككتلة بصرية تزيّن غلاف الكتاب العربي، مستعيداً بذلك جماليات أغلفة المخطوطات العربية القديمة. لكنّه وقّع إنجازاته الغرافيكيّة آنذاك باسم آخر هو «عماد حليم». وسيرافقه ذاك الاسم طويلاً قبل أن يستعيد توقيعه الأصلي.
نستعيد اليوم عشرات الأغلفة التي صمّمها عماد حليم: «تقرير إلى غريكو» لكازانتزاكي، و«اللاز» رواية الطاهر وطار الشهيرة، والأعمال الكاملة لدستويفسكي، وعناوين مجلة «الكرمل»... بعد اجتياح بيروت، اضطر منير الشعراني إلى مغادرة المدينة. توقف في طرابلس أولاً في ضيافة نهلة الشهال. يقول متذكّراً «أهديتها لوحة تحمل عبارة النفري «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة». انتهى به المطاف في قبرص، ثم في القاهرة، ليتفرّغ أخيراً لأعماله المبتكرة في الخط، ويجد في عبارات مقتبسة من أبي حيان التوحيدي، والمتنبي، والنفّري، ضالته في استعادة بهاء الحرف العربي، ونفض الغبار عن فن أصيل وقع طويلاً تحت سطوة التجويد. كان منير يشعر أنّه يملأ فراغ سنوات طويلة، لم يغامر أحد خلالها في اكتشاف رحابة هذا الفضاء الغرافيكي، ووضعه في مهبّ آخر بلا ضفاف. وجاء معرضه الأول في «اتيليه القاهرة» إيذاناً بولادة حقيقية لخطاط عربي جديد.
ينفي الشعراني الأبعاد الصوفية للوحته، ويرى في هذه النظرة قصوراً معرفياً في اختزال خمسة قرون من تجليات الخط العربي والموسيقى الداخلية التي تنظّم هندسة الفراغات والكتلة. خاض هذا الخطاط السوري الفذّ تجارب غير مسبوقة في جمال الأداء وصرامة البنية الزخرفية والتكوينات المتناغمة، وتعدّد الرؤى تجاه العبارة ذاتها. لطالما أعاد كتابة عبارة ما بحلول غرافيكية متعددة، وبعيدة عن النسخ والتكرار، وذلك بتأثيث الحرف جمالياً، انطلاقاً من المعنى الكامن في العبارة المختارة. وإذا باللوحة تذهب إلى مناطق بكر بلمسة مبتكرة في التشجير والتوريق، من دون أن تعلن قطيعتها مع حفريات المعلمين الكبار.
هكذا نتتبع استقامة حرف الألف وانسيابيّته، بوصفه دليلاً على بقية الأحرف، لنفكّك على مهل سرّ الصنعة وجوهر تجربته الحداثية التي لا تتوقف عن التجريب والمغامرة في استنباط تأثيرات بصرية مشبعة بالتأويل. ذلك أن «العارف صاحب تجريد» وفقاً لمحتوى لوحة مقتبسة من ابن عربي. هذه العبارة ستقابلنا بمجرد أن ندخل محترفه الجديد، كأن منير الشعراني يرغب في أن يختزل المسافة إلى لوحته من دون مقدمات. الحداثة التي يعمل عليها غير منقطعة الجذور عن الأصل، لكنها تأتي من موقع «التمرّد على الفصل الجائر بين الخط العربي والتشكيل» يقول.
في محترفه، تتكدس دواوين شعرية قديمة وحديثة، ستكون مدار بحث وتنقيب عن المادة التي ستجبل ببياض اللوحة. عدا نصوص ابن عربي والمتنبي وملحمة جلجامش والأقوال المأثورة، استعان منير بنصوص حداثية وأدخلها في مختبره. لكنها لفرط الكثافة والتمحيص، اعتقد بعضهم أنّها نصوص مغرقة في القدم. لن نهتدي بسهولة إلى صاحب «الكلام شرك»، أو «الجهل عمود الطمأنينة»، أو «لا حقيقة في الظل». سيخبرنا باسم شاعر لا يخطر في البال بسهولة، إنه وليد خزندار، شاعره وصديقه الأثير. منير الشعراني منكبّ حاليّاً على إنجاز معرضه المقبل الذي ستحضر فيه أشعار الجواهري ومحمود درويش ومحمد الماغوط، وسليم بركات ومحمد بنيس... إضافة إلى انشغاله بإقامة ورشات عمل للخط العربي لإحياء بهجة هذا الخط الذي بات يتيماً، واستنباط حروف طباعية جديدة تعيد الألق إلى تاريخ الخط العربي، خارج سطوة المستشرقين.


5تواريخ

1952
الولادة في السلمية (سوريا)

1962
تتلمذ على يد الخطاط الشامي
محمد بدوي الديراني

1971
الانتساب إلى كلية الفنون الجميلة
في دمشق ـــــ قسم الإعلان
والتصميم الزخرفي

1987
معرضه الأوّل في «اتيليه القاهرة»

2010
الإعداد لمعرض مشترك للخط العربي
مع تاج السر حسن، ووسام شوكت،
في «صالة رافيا» في دمشق