محمد شعير
رغم هجرته إلى أوستراليا منذ أكثر من 22 عاماً، لا يزال وديع سعادة يعدّ نفسه «مزارعاً مقيماً في سيدني». حَوّل حديقة بيته هناك إلى مزرعة لبنانية صغيرة، زرع الخضر والفواكه التي لا يأكل إلا منها وفي موسمها. يضحك: «أعشق الطزاجة، الفاكهة في غير موسمها ضارة». هكذا هو وديع سعادة: حالة شعرية خاصة. عندما سألناه ماذا يعني أن تكون شاعراً؟ أجاب: «يعني أن أكون في الوهم. الوهم الجميل الذي أتمنى ألّا يفقده أحد». هو عابر دوماً. في زيارته الأخيرة إلى القاهرة، أدهشه هذا الاحتفاء الشديد بقصيدته. كان شديد الخجل. حين يتحدث أحد عن تجربته باحتفاء شديد، تشعر كأنّه يغوص في مقعده أمام كلمات المديح. لا يجيد الحديث عن قصيدته. يتوقّف طويلاً أمام الأسئلة ويراوغ قبل أن يقول: «أنا لا أجيد التنظير لشعري».
يريد أن يكون «عابراً». فـ«العابرون سريعاً جميلون». وهكذا كانت حياته «عبوراً دائماً» بين بيروت ولندن وباريس ونيقوسيا... إلى أن قرّر الاستقرار في سيدني. خلال تنقّله الدائم، كان مثل «ملاك مهاجر غير تارك إقامة قد تكون مكاناً لخطيئة... غير مقترف إقامة. غير مقترف خطيئة».
وصف بعض النقاد شعره بأنّه «شعر الحياة»، فيما قال عنه آخرون إنّه شعر «العمى والعدمية». بعضهم قال إنّه شاعر الغياب، أمّا هو فيرى نفسه عكس ذلك «شاعر استدعاء الحضور». وبين الرؤيتين المتناقضتين، تحوّل صاحب «نصّ الغياب» إلى أكثر الشعراء العرب حضوراً وإلهاماً في أوساط شعراء قصيدة النثر، وخصوصاً في مصر. شعراء «أم الدنيا» ومنظِّروها يتعاملون مع قصيدته باعتبارها «إنجيلاً لقصيدة النثر». ربما لهذا السبب وجد نفسه هذا المرة «مطلوباً» ضيف شرف من قبل «ملتقى قصيدة النثر العربيّة». وهناك وجد نفسه، من دون أن يقصد، موضع خلاف، هو الهارب دائماً من التنميطات. حاول أن يجمع الطرفين المنقسمين، وحرص على التأكيد أنّه ليس مع طرف ضد آخر، وأن علاقته جيدة مع الطرفين، مردّداً هذه اللازمة في كلّ الندوات والأمسيات التي شارك فيها.
لا يجيد الحديث عن تجربته. «أكره التنظير»، يقول. لكنه يبدو في دواوينه التسعة أشبه ببطل رومانسي مهزوم. كان ديوانه الأول «ليس للمساء إخوة» عبارة عن مقاطع متتالية لقصيدة طويلة، ثمّ ظهر نوع من التوتر تجاه العالم في دواوينه التالية مع عنف لغوي حاد. في ديوانه «بسبب غيمة على الأرجح»، بلغ حدّ الشك في جدوى الكتابة، قبل أن يتحوّل الشجن الرومانسي إلى نوع من الاستسلام للعالم كما هو، والبحث عن كتابة غايتها «الخلاص» عبر التركيز على الأشياء الصغيرة. «توخّيت من الشعر نوعاً من الخلاص الذاتي في مواجهة عالم دائم الانقضاض والافتراس. بعد فشل المواجهة، حاولت أن أقنع نفسي بأن الاستسلام للعالم كورقة صغيرة في نهر ربما يكون هو الخلاص الوحيد المتاح. لكنّ هذا كان مستحيلاً أيضاً». هل كان يبحث عن رومانسية جديدة ومختلفة في التركيز على مفردات الطبيعة والصور الشعرية المرهفة؟ يجيب: «لا يصح وضع القصيدة الحديثة في خانة تصنيف معين، لأنّه لن يكون دقيقاً. القصيدة تحمل وجوهاً عديدة في الوقت نفسه، بما فيها التناقضات... تحمل الرومانسية إلى جانب العبثية والسوريالية والواقعية والرمزية وغير ذلك». الرومانسية في شعر صاحب «بسبب غيمة على الأرجح» هي «حالة» أكثر من كونها «طريقة كتابة». حالة يعيشها يومياً وتظهر في كتاباته إلى جانب حالات أخرى مختلفة وربما نقيضة.
قد يكون لنشأته في قرية شبطين (شمال لبنان) تأثير آخر. «في تلك القرية كان الناس على وفاق وسلام بعضهم مع البعض الآخر ومع الطبيعة، إلى درجة كان يصعب تمييز شخص عن آخر أو تمييز شخص عن نبات»، يخبرنا. كانت القرية إذاً المكوّن الأول لشعر وديع سعادة، «بمعنى استدعاء عالم شبيه بها، وبمعنى الصدمة من استحالة وجوده». استدعاء الغائب هو ما يقصده سعادة هنا، لا شيء آخر. ليست لديه أوهام في تغيير العالم أو حتى تجميله... قد يكون الهدف الأسمى ربّما «تجميل لحظة لدى الكاتب». لهذا يرى سعادة الكتابة الشعرية «محاولة اختراق» دائمة. اختراقٌ «لتجارب شخصيّة ليس بهدف ترسيخها بل بهدف محوها». والمحو هو ذروة ما تسعى إلىه الكتابة «مثلما البياض ربما يكون ذروة ما تسعى إلىه الألوان... البياض على الأرجح، هو غاية الكتابة».
بعيداً عن القرية الوادعة التي يحاول أن يستدعيها، تلقي الحرب الأهلية اللبنانية بظلالها على قصائده، في رؤية عبثية. الحرب أكدت له أنّ «ما كنا نعتبره وطناً كان مجرد حلم». هذا ما دفعه إلى البحث عن «وطن» بديل لأولاده. يبتسم: «صارت أوستراليا وطناً

الرصيف يجمعه بالماغوط... وتربطه صِلات خفيّة بسركون بولص وأنسي الحاج

هجرة المثقفين العرب دليل على عدم جدوى المواجهة في هذا الزمن العبثي
لأولادي، وبقيت أنا مثل شجرة هرمة اقتلعت من تربتها وغرست في تربة غريبة». ليست الحرب اللبنانية وحدها ما أوصل سعادة إلى هذه الرؤية العبثية. «إنّها «فصل واحد من حروب كثيرة أخرى ـــــ ظاهرة حيناً وخفية في أغلب الأحيان ـــــ تؤدي جميعها إلى الدمار والإبادة والعبث». لكن هل يعدّ سعادة نفسه منفياً؟ يجيب: «الشاعر ، لا سيّما الشاعر العربي، مغترب دائماً، ومهاجر دائماً، ومنفي دائماً، سواء أكان في وطنه أم في بلاد أخرى». هو، في أوستراليا، الثلاثة معاً: مغترب بمعنيي الحالة والجغرافيا، ومهاجر بمعنيي الهوية والإقامة، ومنفي بمعنيي الاقتلاع من المكان الأول والغياب في المكان الثاني.
لكن ألم يكن الخروج هرباً من المواجهة؟ يجيب: «ليس هرباً أن نرى آلاف المثقفين العرب خارج أوطانهم. يجب أن نعترف، في حالة هؤلاء المثقفين، بأنّ هناك منطقاً أملى علىهم الهجرة: الحقيقة المضادة تقول بلاجدوى المواجهة ولا معنى الموت والشهادة في هذا العبث. والمنطق لمن أنجبوا أطفالاً، يملي علىهم البحث عن أوطان أخرى وعدم نقل الإرث القاتل نفسه إلى أولادهم... إذا كنّا فعلاً نحترم الإنسان والإنسانية، يجب أن نحترم هذا الذي يسميه بعضنا «هرباً».
بعيداً عن حديث الحروب والهروب، نسأله عن آبائه الشعريين، وخصوصاً أنّ قصيدته بدت منذ بدايتها كأنها تخصّه وحده، بعيداً عن التجارب السابقة. «أشعر بقرابة روحية مع محمد الماغوط»، يقول. الماغوط كتب ـــــ حسب سعادة ـــــ بشرايين قلبه لا بيده، وبساطته الإنسانية العميقة أجادت الاختراق. «الرصيف هو ما يجمعني بالماغوط، هناك حيث يعبر الناس. الرصيف والزوايا الجانبية المعتمة، وليس المركز والأضواء، يقول. إلى جانب الماغوط، ثمة أسماء أخرى من تلك المرحلة مثل أنسي الحاج وسركون بولص... «هؤلاء يشكلون مع شعراء غيرهم المدخل العربي الحديث إلى الشعر كما أفهمه، فأنا لا أرى شعراً في المديح والهجاء والمناسبات وغيرها...».
الشعر العربي حتى الستينيات، من وجهة نظر وديع سعادة، «ظلّ أسير ذهنية سلفية. لكن في النصف الثاني من القرن العشرين بدأ يخرج إلى الحداثة. منذ هذا التاريخ بدأ الشعر العربي الحقيقي عندما خَلّص نفسه من السلفيات والماورائيات والتقاليد وما يسمّى الثوابت والمحرمات».


5 تواريخ

1948
ولد في قرية شبطين
(شمال لبنان)

1973
كتب ديوانه الأول
«ليس للمساء إخوة» ووزعه على
أصدقائه، قبل أن يصدر مطبوعاً بعد
هذا التاريخ بثمانية أعوام

1988
هاجر إلى أوستراليا

2008
صدرت أعماله الكاملة عن
«دار النهضة العربية»

2010
كرّمته القاهرة في
«ملتقى قصيدة النثر العربية»