عمر نشابةيرى البعض في لبنان أن مجرّد السؤال عن نزاهة المحكمة الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وكفاءة العاملين فيها ودقّة الإجراءات التي تتبعها، هو بمثابة تجنٍّ على الآلية الدولية لتحقيق العدالة حماية للقَتَلَة من الملاحقة والمحاسبة.
إن ضيق أفق الرؤية يمنع تقبّل النقاش، حتى الهادئ منه، ويحرم اللبنانيين البحث المعمّق عن مصالحهم.
أُتيحت أخيراً فرصة نادرة لوضع الأمور في سياقها العدلي المناسب. إذ تراجع بعض ناسفي قرينة البراءة عن أحكامهم بحقّ سوريا التي كانوا قد عدّوها قاتل الحريري، غير مدركين أن المحكمة الدولية لا تحاكم أمماً ودولاً وتنظيمات وشعوباً، بل أفراداً يثبت قضائياً ضلوعهم في الجريمة.
أُتيحت فرصة ذهبية لمن دفعته العواطف خلال السنوات القليلة الفائتة إلى التعبير عنها من دون التفكير بـ«خطّ الرجعة». فبعد طبع نجل الرئيس الشهيد قبلات على خدّي الرئيس السوري، بدأت مرحلة جديدة قد يُسمح خلالها للبنانيين بالتفكير العقلاني المعمّق في حماية مصالحهم الطويلة الأمد.
لكن في عداد فريق الحريري السياسي وحلفائه، من يصرّ على تحويل التعبير العاطفي السابق إلى التزام بمغامرة دولية لا يمكن أن تودي إلا إلى خراب لبنان وتدمير ما بقي من مؤسسات الدولة فيه.
وإذا كان اتهام سوريا باغتيال الحريري زلّة لسان وتعبيراً صادقاً عن عواطف ولّدها تراكم توترات بين لبنانيين وسوريين في السابق، فإن اتهام حزب الله مبرمج عن سابق تصوّر وتصميم، ومبني على مخطّط استخباري دولي. ولن يتبين ضلوع مكتب المدعي العام وقاضي الإجراءات التمهيدية المحتمل في مخطّط كهذا بمجرّد الاطلاع على مضمون مضبطة الاتهام لحظة صدورها، إذ إنها لا يمكن أن تشير إلى حزب الله مباشرة. لكن معلومات تتهيأ أوساط في لبنان وخارجه لنشرها بعد صدور مضبطة الاتهام، تتناول علاقة المتهمين الذين سمّى بعضهم تقرير «دير شبيغل» وموقع نزار نيوف الإلكتروني، بحزب الله. وإدراكاً بأن تلك المعلومات البوليسية قد توصف بـ«التسريبات» لمنحها صدقية، بادر مكتب المدعي العام أخيراً إلى إصدار بيان يبرئ المحكمة من كلّ ما يُنقل عنها.
لكن رغم ذلك، استُخدم قول المتحدثة باسم مكتب المدعي العام الدولي راضية عاشوري إن «توجيه الاتهامات حالياً هو مضيعة للوقت (...) اصبروا قليلاً، إن غداً لناظره قريب» لتشجيع البعض على اتهام حزب الله باغتيال الحريري، وذلك بسبب تزامنه مع تسريب خبر استدعاء مكتب بلمار عناصر من حزب الله بهدف الاستماع إلى شهادتهم. وفهم بالتالي أن عاشوري تطلب التريث في الاتهام حتى يكون إعلان الأدلة والإثباتات متاحاً (أي بعد صدور مضبطة الاتهام). تنكر عاشوري طبعاً تلميحها لحزب الله، لكن قد يكون مفيداً لها ولبلمار ولغيرهما أن يتذكّروا دائماً وقع الخراب الذي أتى به «الثعلب» الألماني ديتليف ميليس على علاقات اللبنانيين ببعضهم وبجيرانهم السوريين. وقد يستفيد المدعي العام إذا سأل الناس: ما رأيكم اليوم بالمحكمة الدولية؟