Strong>حسين بن حمزةاسمها أشهر من مُنجزها المطبوع. أكثر من ثلاثة عقود من الممارسة النقدية، والحصيلة كتابان فقط. التردّد وتهيُّب النشر جعلاها تكتفي بحضورها المميز الذي راكمته وطوّرته من خلال عملها في الصحافة الثقافية. إنها فاطمة المحسن، الناقدة العراقية التي تكتب النقد بمزاج الكتّاب. زهدها في النشر يُدخلها في التصنيف الذي يُعطى عادةً للشعراء المقلّين. نقرأ صاحبة النبرة العميقة والحساسية العالية في مقاربة النصوص الأدبية والثقافية، ونقول إنها كانت ستحصل على الشهرة نفسها حتى لو لم تطبع شيئاً.
عملها في الصحافة الثقافية قرّبها من حركة الأفكار والمقترحات والابتكارات المتجددة، وجعلها لصيقة بالتطورات والمنعطفات التي تحدث في المشهد الإبداعي، وخصوصاً في الشعر والرواية. لا ننسى هنا أن فاطمة المحسن كتبت القصة القصيرة. نشرت عدداً من أعمالها في «الكرمل» و«البديل»، واحتفظت بالباقي في أدراجها. التوقف عن القصة تسرّب إلى النقد. تورّطها في القصة وقربها مما يحدث في الكتابة نجّيا نبرة حاملة الدكتوراه في النقد الأدبي من الجمود الأكاديمي والتنظيري.
لا تزال صاحبة «تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث» تحتفظ بروحية القراءة. بالنسبة إليها، النقد متحصّل من لذة القراءة أولاً، ثم تأتي المعايير الأخرى. تقرّ بكسلها في جمع وطباعة ما نشرته في سياقات ثقافية عديدة. «فكَّرتُ مراراً في جمع دراساتي وأبحاثي وإصدارها في كتب، لكنّ التردّد لا يفارقني. أعرف أن ما يُؤرّخ ويبقى موجود في الكتب، لكنّ إدراكي لذلك لا يُنقص كسلي وتردّدي. المكتبة العربية مليئة بإصدارات مكرورة ونافلة لا يستفيد منها القارئ. هوس النشر يجعلني مقلّة وزاهدة».
ولدت فاطمة المحسن في بغداد. كان والدها موظفاً في دائرة فرز العقارات. هكذا، عاشوا متنقّلين في أنحاء العراق. «والدي كان قارئاً جيداً. وكانت لديه مكتبة صغيرة في كل مدينة مكثنا فيها». الفتاة التي عاشت مراهقةً كئيبة، وجدت في القراءة نوعاً من الحل. درست الأدب العربي في جامعة بغداد. في السنة الثانية، عملت محررة لصفحة «أدب الشباب» في مجلة «الإذاعة والتلفزيون». كان ذلك أشبه بتمارين للبدء بإنجاز تحقيقات ومقالات ثقافية في جريدة «طريق الشعب» لسان حال «الحزب الشيوعي العراقي» التي كان سعدي يوسف مسؤولاً عن قسمها الثقافي.
عملت في «طريق الشعب» لسان حال «الحزب الشيوعي العراقي» مع سعدي يوسف
كانت فاطمة أيضاً ناشطة حزبية في صفوف الطلبة والعمال. انفرط عقد الجبهة الوطنية مع حزب البعث الحاكم، وبدأت حملات التنكيل بالشيوعيين. أمضت فاطمة المحسن 21 يوماً في المعتقل. «كانت فترة قصيرة. لكنّها كانت كابوساً لم أبرأ منه حتى اليوم. علاقتي بالعراق لا يزال فيها أثرٌ من تجربة المعتقل القاسية. أعتقد أن الاعتقال زاد من كآبتي، وتسرَّب حتى إلى أدائي في الكتابة». على ظهر بغلٍ سار بها ساعات طويلة ومضنية فوق جبال كردستان الوعرة، غادرت فاطمة المحسن إلى إيران أولاً. ثم إلى بيروت. وهي الطريق التي سلكها مئات الكتّاب والمثقفين العراقيين هرباً من قمع البعث وحروب صدام العبثية.
مثل أغلب المبدعين العراقيين، عملت في الصحافة الفلسطينية في بيروت. قبل الاجتياح الإسرائيلي، حصلت على منحة دكتوراه في هنغاريا. كانت فترة تفرغ حقيقي للأدب انتهت سنة 1986 برسالة حملت عنوان «التجديد في الشعر العراقي الحديث/ سعدي يوسف نموذجاً». بعد 14 سنة، ستُفرج المحسن عن جزء منها ليصدر بعنوان «سعدي يوسف/ النبرة الخافتة في الشعر العربي الحديث». بعد الفترة الهنغارية، استقرت في دمشق، وعملت في مجلة «الحرية» التي كانت تنشر لكبار الكتاب: منيف وأدونيس وونوس وعدوان ودراج وهلسا. «أظن أن اسمي بدأ بالترسّخ وقتها. كانت فترة خصبة. الصحافة الفلسطينية ساهمت في تكريس تجارب عراقية كثيرة في المنفى».
أمضت فاطمة المحسن أغلب سنوات حياتها وهي تتجنّب نفسها. النقد بهذا المعنى كان أشبه بقناع لهذه المرأة التي يقيم في ملامحها حزن مزمن. تركت القصة لأنها لا تحتمل أن تكون حياتها وأفكارها الشخصية مرئية ومعلنة. بطريقة ما، ذاب المزاج القصصي والسردي في الممارسة النقدية. «ربما كان ذلك تنفيساً لمشروعٍ مجهض في كتابة القصة. إضافة إلى أن القصة لم تكن فناً جذاباً. الشعراء نجوم الثقافة العراقية. محمد خضير وحده نال شهرة الشعراء ونجوميّتهم». يُحزنها أن جهودها النقدية مبعثرة وغير منضوية في سياقٍ أو تيار، بسبب التشظّي الذي يعيشه الجسم الثقافي العراقي كله. «التشظّي يمنع الثقافة العراقية من امتلاك كتلة منظورة ومتماسكة. الكاتب العراقي عالق. لا يستطيع العودة إلى مجتمعه الثقافي ومنظومته الأصلية، ولا يستطيع الانتماء إلى ثقافة المنافي».
21 يوماً في المعتقل طبعت حياتها على دروب المنفى الطويل بين إيران ولندن وبيروت
هل تؤمن بفكرة أن الكتابة وطن المنفيين؟ «أثناء الكتابة أفكر أنها نوع من الوطن، ولكنها ليست فكرة منجزة ومطمئنة. طوال سنوات النفي، كان لديّ إحساس بأني سأعود إلى العراق وتنتهي غربتي. لا أنكر أني شعرت بانتماءٍ ما إلى كل مدينة مكثتُ فيها. بعد سقوط نظام صدام، عدت إلى العراق. زيارة قصيرة أكدت لي أن بلدي لم ينتظرني. لم أعثر فيه على حياتي السابقة. انتهت لحظة اللقاء العاطفي مع الأهل والأقرباء، ثم جاءت لحظة الحساب. كأني عدت إلى العراق كي أفقده».
التشظّي الذي تشكو منه المحسن تراه من جانب آخر مفيداً. ثقافة الأمكنة الجديدة هي إضافة إلى معجم الكاتب العراقي وخياله في المنفى. «عشتُ مرارات المنفى، لكني استفدت كثيراً. العيش خارج البلاد يحفّزك على التحدي. كونك لست ابن البلد الذي تقيم فيه يخوّلك تقديم وجهة نظر أخرى. أنت تملك عين الغريب. عندما تكون ثانياً. عندما لا تكون مواطناً. هذا ينجّيك من انغلاق أهل البلد. امتياز المواطنية يخسّرك القلق والتجدد».
عاشت فاطمة المحسن في أماكن عدة، لكنّ الرضّة النفسية لفترة اعتقالها، وسنوات النفي الطويلة، أمّنت بيئة ملائمة لكوابيس لاحقتها غير آبهة بالجغرافيا. فجأة، بدا أن منعطفاً ما بات ممكناً. كانت في لندن، حين رأت تمثال صدام حسين يسقط على الهواء مباشرةً. «لم أصدّق. صرخت بطريقة غير طبيعية. خفت أن يسمعني الجيران. ركضتُ إلى الحمام وأغلقت على نفسي. وقفت تحت الدوش وأنا بثيابي وتابعت الصراخ. كانت طيور محبوسة تخرج من داخلي وتطير لأول مرة». تقول إن زوجها ورفيق دربها فالح عبد الجبار أخبرها بأنه لم يعد يستيقظ على صراخها المكتوم أثناء نومها منذ أن سقط صدام حسين. «كلنا صرخنا. كان لدينا اعتقاد راسخ بأن هذا الرجل لن يسقط أبداً. ما ظنناه مستحيلاً تحقّق أمام أعيننا. المؤلم أن التطورات الجهنمية التي تلت ذلك أيقظتني من هناءة تلك السعادة القصيرة. ما يحدث في العراق اليوم لا يُسعد أحداً. تفجيرات وبشر يقتلون بالمجان». تقول إنها ليست متشائمة تماماً. «سيكون هناك عراقٌ آخر. لكن السؤال هو: بأيّ ثمن؟».


5 تواريخ

أوائل الخمسينيات
الولادة في بغداد

1986
نالت الدكتوراه في الأدب بعنوان «التجديد في الشعر العراقي الحديث/ سعدي يوسف نموذجاً»، من «جامعة بودابست» (هنغاريا)

2000
صدر كتابها «سعدي يوسف/ النبرة الخافتة في الشعر العربي الحديث» (دار المدى)

2008
زيارة أولى إلى العراق بعد 30 سنة في المنافي

2010
صدر لها أخيراً كتاب «تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث» (دار الجمل)