ليست حياة فاطمة حسن حسين الأدرع، ابنة السابعة والستين والمقيمة في أعالي جبل أكروم، نزهة ريفيّة. هي أسرة من أحد عشر شخصاً، يعيشون على راتب جندي في الجيش يتنقّل وينقل معه أسرته أينما يُفرز للخدمة، ثم على راتب تقاعد. وبالرغم من ذلك «صنعوا» المعجزة، وها هم الأولاد في المدارس والجامعات، وأمّ حسن تكافح مع مرض ترقّق العظام وتصرّ على أنها قادرة على العمل
عكار ــ روبير عبد الله
أمام منزلها في كفرتون في أعالي جبل أكروم، ما زالت أمّ حسن واقفة. هناك، على تلة حيث تنبسط تحت قدميها اللتين جالتا كثيراً، سهول تمتد فسيحة حتى بحيرة حمص. سبعة وستون عاماً أمضت أم حسن معظمها تعارك الحياة منتزعة اللقمة من فم السبع، كما يقال هنا. من قحط طبيعة جرداء استطاعت أن تستخرج لها ولأهلها أولاً، ولزوجها وأولادها لاحقاً، ما يحتاجون إليه، وهي لا تزال مثالاً يشاهده أحفادها بعدما أصبحت جدة. ولكن أمّ حسن لم تنزوِ في زاوية الغرفة لتروي الأقاصيص، ولا تتردد في التحدث عن شغفها بالعمل «الشيء الوحيد الذي يحقّق لي ذاتي».
هي فاطمة حسن حسين الأدرع، ابنة البيت القروي الذي توسل الزراعة التقليدية جداً، بالإضافة إلى رعي الماشية، سبيلاً لحياة ملؤها الكد لتأمين مقومات البقاء. لا أذكر يوماً «طلعت لي الشمس وأنا في المنزل»، تقول فاطمة. فمنذ نعومة أظفارها وهي ترعى الماشية، مثلها مثل بنات جيلها وشبابه. كانت فاطمة تقطع يومياً أكثر من عشرات الكيلومترات لتبيع سواد الحيوانات في عندقت عند «أبي نظير»، مقابل ليرات ثلاث كانت في حينها تزيد على «يومية فاعل». كان ذلك في ستينيات القرن الماضي.
تزوّجت فاطمة من محمد أبو عمشة وسكنت بداية مع أهله لمدة سنتين. لم يتغيّر سلوكها، بل كانت مع أهل العريس كأنها في منزل أبيها، تشارك أفراد الأسرة الممتدة الجهد وتتقاسم معهم أعباء الحياة.
زوج فاطمة جندي في الجيش اللبناني، انتقلت معه للسكن في راشيا عام 1962. ومكث الزوجان هناك حتى عام 1965. برحيلها إلى راشيا، وبالرغم من خلاصها من أعباء الرعي والسير في الأحراج والبراري، شعرت فاطمة بأنها خسرت لذة المشاركة، وحرية ضاهت بها الرجال. وكأنه مجد ما كانت تريد له أن يضيع، تسارع إلى استعراض «بطولات» يوم نشبت معارك إثر غزوات بين أهالي جبل أكروم وبعض العشائر، وكيف كانت ندّاً للرجال، فتتذكر كيف كانت تنقل الأكل والمال، بل الذخيرة إلى مواقع القتال، ثم تروي باعتزاز كيف أصابت رصاصة جرة الماء وهي على كتفها لتسقط كامل الجرة وتبقى المسكة وحدها بيدها.
ثم انتقلت فاطمة وأسرتها إلى جونية، كما يفعل معظم العسكريين عندما تتغير مواقع عملهم. سبع سنوات أمضتها الأسرة هناك حتى اضطرّت مرغمة للانتقال إلى منطقة المنكوبين في طرابلس مع بداية المناوشات الطائفية في عام 1975. ومنطقة المنكوبين ليست قرية ولا هي مدينة. هي مزيج من هذا وذاك. هي المنطقة التي انتقل إليها سكان طرابلس بعد نكبة فيضان نهر أبو علي. هناك علّمت فاطمة الجيران طريقة الخبز على الصاج. إذ مكثت هناك حتى عام 1986.
تحلم بأن يفتح لها أولادها محلاً تمارس فيه عملاً منتجاً
إلى ذلك العام، كان عدد أفراد الأسرة قد بلغ أحد عشر شخصاً. وهو ما يعجز راتب العسكري على الوفاء بمستلزمات إعالتهم. لكن فاطمة لم تكن تنتظر الراتب الشهري فقط، بل كانت تمضي فترة الصيف كلها في القرية تحضّر المونة لتجعل مصروف البيت يقتصر على شراء اللحوم وبعض الخضر.
بلغ زوج فاطمة سنّ التقاعد، فانتقل إلى القرية ليفلح ويزرع الأرض. وكان على فاطمة أن تقسّم وقتها بين منزليها في القرية وفي المنكوبين. في القرية ترعى شؤون زوجها الفلاح، وتحضّر الخبز على التنور كما الحليب واللبن والبيض وغيره من مواسم القرية، وفي المنكوبين حيث باقي الأولاد في مدارسهم في المدينة.
في عام 1989 عادت الأسرة بكاملها إلى كفرتون. اقتنت فاطمة، كما هي حال العديد من نساء القرية، بقرة. فبات بالإمكان تأمين كل مشتقّات الحليب، كما راحت تبيع الفائض. وبقيت سنين طويلة على هذا المنوال وما تزال.
أولاد فاطمة التسعة حصّلوا مستويات تعليمية لا بأس بها، وبخاصة بالنسبة إلى ظروف القرية وأحوال الترحال والانتقال. أقلّهم ابنتان بلغتا المرحلة المتوسطة، وشابان المرحلة الثانوية، وأربعة بين شباب وبنات بلغوا المرحلة الجامعية. أما أصغرهم فلا يزال لغاية الآن يدرس الطب في روسيا الاتحادية.
راتب الجندي، وبخاصة بعد بلوغه مرحلة التقاعد، لا يكفي لإعالة الأسرة وتعليم الأولاد، ولا سيما في المرحلة الجامعية. إنه ذلك الجهد الذي لا يحتسب مردوده وفق معايير التنمية البشرية المعهودة، فالقصة أبعد من ذلك بكثير، هو الاقتصاد المنزلي الذي قلّما يحسب له حساب. كما هو التدبير وفق مستوى الوعي والحرية اللذين تملكهما المرأة الريفية والذي لا تلحظه قوانين الجمعيات والمنتديات المعنية بأخبار المرأة العصرية والمتمدنة.
فاطمة أمّ حسن لم تبعدها مشاغلها اليومية داخل البيت وخارجه عن إحساسها بوجودها وبموقعها على المستوى الاجتماعي والسياسي. إذ طالما كان لها كما تقول «هدف» ضمن إطار الصراعات والمنافسات العائلية داخل القرية.
بلغت أم حسن السابعة والستين من عمرها، صارت جدة لنحو ثلاثين حفيداً. لكن أمومتها امتدت لتشمل، علاوة على رعاية ما بقي من العازبين، الاهتمام بالمتزوّجين وبأبنائهم.
تحلم أم حسن بأن يفتح لها أولادها محلاً تجارياً تمارس فيه عملاً منتجاً بعدما تراجعت قواها الجسدية وازدادت أوجاعها بسبب مرض ترقق العظام. فهي تقول إنها في العمل تحقق ذاتها بمعزل عن حاجتها إلى المردود المالي.
ليس العمل في المصنع أو في غيره من المجالات هو وحده ما يمثل مدخلاً لمشاركة المرأة في الحياة الاقتصادية، من دون أن يعني ذلك تكرار دعوات القرن التاسع عشر لمشاركة المرأة من خلال تعليمها فنون التطريز والخياطة أو ما شابه. فلأم حسن كما لغيرها من أهالي القرى والبلدات أدوارهم في الحياة الاقتصادية، كما في الحياة الاجتماعية والسياسية.