في حي الحلفاوين في تونس العتيقة شبّ على حكايات الموروث الشفوي والموسيقى الأندلسيّة وأغاني أم كلثوم... ثمّ نهل من معين الأصالة في «المعهد الرشيدي للموسيقى التونسيّة»... المطرب الذي اقترنت مسيرته بألحان صوفيّة وتراثية، وغنّى من ألحان أحمد صدقي وسيّد مكاوي وأنور ابراهم، يرثي لراهن الموسيقى العربيّة

سعيد خطيبي
تطغى ملامح الثقة بالنفس على حديث لطفي بوشناق. يبدي عدم توافق طموحاته مع المنجز الفني العربي الحديث، وحسرته لأنّ هذا المنجز «غير قادر على استيعاب مختلف مكنونات الهوية العربية». الأسماء والرموز المكرّسة هي وليدة للصناعة الإعلاميّة في رأيه، ولا تمّت بصلة إلى الهواجس الاجتماعيّة والسياسيّة الحاضرة في وجدان الناس: «الإعلام سلاح ذو حدّين، بقدر ما يسهم في خلق نجومية فنان، يقدر على تحطيم مساره». ويضيف: «ماذا يحمل المغنّون الجدد ونجوم الشاشات من معالم تحديث؟ ماذا يحفظون لأنفسهم من تأصّل وترابط مع ماضيهم؟»... بوشناق من الأسماء الفنيّة القليلة التي تسبح عكس التيّار. يرفض الانخراط في موجة الموسيقى العربية الحالية القائمة على الإثارة، وتوظيف التقنيات السمعية البصرية بغية الرواج، بدلاً من الرهان على الموهبة والكفاءة. بنبرة يعلوها بعض الاستياء يقول: «لا تعنيني الشّهرة في الوقت الحالي، من منطلق إيماني بالسير على الطريق الصواب، واقتناعي بأنّ موسيقاي ستحافظ على المدى البعيد على جمهورها». هذه الرّوح الصداميّة العابقة بملامح القلق وعدم الرضى، لا تخفي روح لطفي بوشناق المبدعة والأصيلة والرومنسية أحياناً. تجربته المتأثرة بالطرب العربي والتراث التونسي خصوصاً، لا تنسينا أنّه أمضى جلّ حياته يبحث عن سبل ومناهج لتحديث الموسيقى العربية، مع محاولة مزجها في بعض الأنماط الغربية مثل الجاز. هكذا، خاض تجارب متنوّعة، من المالوف (نمط مقتبس من الموسيقى الأندلسية) وصولاً إلى الأغنية الخليجية (في أغنية «ليلى» التي كتب كلماتها محمد بن راشد آل متكوم ولحنها أحمد فتحي)، مروراً بالموشحات والأغنية الصوفيّة.
وُلد لطفي بوشناق وعاش سنوات المراهقة في حي الحلفاوين، في مدينة تونس القديمة، بالقرب من حي باب السويقة. في ذلك الحي الذي اتسعت شهرته بعد باكورة فريد بوغدير «الحلفاوين ـــــ عصفور السطح» (1990)، يتناغم الموروث الشفوي مع حكايات الأجداد، ومع ترسبات سيرة بني هلال، ومنها على وجه الخصوص قصة جازية وذياب. هناك أيضاً تلتقي الموسيقى الأندلسيّة مع صخب المقاهي الموريسكية التي تغرق في أغاني عبد الحليم وأم كلثوم.
خاض تجارب متنوّعة، من المالوف إلى الأغنية الخليجية، مروراً بالموشحات والأغنية الصوفيّة والكتابة للراب
التحق لطفي في الخامسة عشرة بـ«المعهد الرشيدي للموسيقى التونسية»، أو المدرسة الرشيدية، إحدى أشهر المدارس الموسيقيّة في تونس والمغرب العربي، تأسّست عام 1934 لإحياء وتطوير البلادة التونسية الأصيلة. في الرشيديّة، تلقّى أول مبادئ الغناء وطرق التحكّم في الصوت. اكتسب، تدريجاً، خصوصية العزف على العود، وراح يشق طريقه وحيداً، بحثاً عن عالم أرحب يسمح له بتطوير ذاته أولاً، ثم يتيح أمامه فرصة تحديث الموسيقى العربية. «أعيش في هذه الرحلة الموسيقية ما يشبه العزلة»، يقول.
اشتغل لطفي بوشناق إلى جانب عدد من قامات الموسيقى العربية، على غرار سيد مكاوي من مصر، وفتح الله أحمد من العراق. عمل مع مواطنه أنور ابراهم، فغنّى من ألحانه وكلمات الشاعر علي اللواتي «ريتك ما نعرف وين»... إلى جانب هؤلاء، رافق بوشناق بدايات الشاب خالد نحو النجومية، من خلال أغنية «لله يا جزائر». كذلك خاض تجربة قصيرة في كتابة كلمات بعض أغاني فرقة الراب الفرنسية IAM التي برزت في مرسيليا مطلع التسعينيات. غنّى للأطفال أيضاً، في ألبوم «مَيْ مَيْ»، مع كورال «المريخ»... غنّى للأم في «وين تروح» و«صوفيا»، وتغزّل بتونس في «تونس، أنا والحب»، وحكى الرومنسيّة على طريقته في «أنت شمسي»، وغنّى مع ميشلين خليفة «العين اللي ما تشوفكش»، من دون أن ننسى أداءه لرائعة الهادي الجويني «لاموني الي غاروا منّي».
وضع موسيقى أفلام مغاربيّة عدّة، بينها «حلو ومرّ» لناصر القطاري (2000)، و«كلمة رجّال» لمعز كمون (2004)، و«صندوق عجب» لرضا الباهي (2003). جال عبر عدد من المهرجانات الموسيقية، في مختلف دول العالم، من باريس إلى طوكيو، ومن الرباط إلى عمان، والهمّ الوحيد الذي بقي يساوره يتجسد في الالتزام تجاه القضايا القوميّة العربية. «أنا أغني من أجل دعم القضايا العربيّة، ولا أعتقد أن العمل الفني ينفصل عن النشاط النضالي». هذا التوجه الملتزم أسهم في الترويج أكثر لاسم بوشناق، فكان أول فنان عربي يصبح «سفير الأمم المتحدة للنوايا الحسنة» (2004). «وسام سفير الأمم المتحدة للنوايا الحسنة أعتبره تحصيلاً حاصلاً، لأنني أشتغل في هذا الخط من الأساس... هذا التشريف لم يضف إلي الشيء الكثير».
نصوص لطفي بوشناق تعبّر، بوضوح، عن مواقفه وتميل أكثر إلى انتقاء كلمات تنطبق على مختلف البقاع وكلّ المراحل، كما في أغنية «يا خلتي أنا عربي»، و«عش يا بلدي»، و«الأرض أرضنا»... جلّ هذه الأغاني من توقيع الشاعر آدم فتحي الذي اشتهر عن ترجمته لمذكرات الشاعر الفرنسي شارل بودلير. وتتجاوز مواقف بوشناق الإطار العربي، لتشمل قضايا إنسانية شتّى، إذ سبق له أن أهدى أغنية لسراييفو (البوسنة)، ما منحه شرف سفير «مهرجان سراييفو للأغنية الشرقيّة». بالطبع ليس السبب كما رأى بعضهم الأصول البوسنية لعائلة بوشناق، في امتدادها على مختلف مناطق المغرب الكبير...
«الثقافة هي السلاح الذي تمّ تغييبه في مسيرتنا النضاليّة»، يقول لطفي بوشناق، مصرّاً على مواصلة النهج ذاته الذي عرف فيه منذ أكثر من ثلاثين سنة. يكشف عن عودته المرتقبة إلى السّياقات الصوفية، من خلال إتمام تسجيل ألبوم غنائي جديد في مديح الأولياء الصالحين المعروفين في المغرب الكبير، على غرار سيدي أبو الحسن الشاذلي، وسيدي الهواري وسيدي بو سعيد وسيدي عبد القادر الجيلالي. يندرج الألبوم الجديد ضمن التوجه الصوفي في مسيرة بوشناق، الذي سبق أن أصدر ألبوماً كاملاً مكوّناً من الابتهالات، تضمن قصيدة «أسماء الله الحسنى»، إضافةً إلى خوضه تجربة «الحضرة» مع فاضل الجزيري.
التنوّع والبحث عن التجديد محوران أسهما في رسم شهرة بوشناق الذي نال عام 2006 جائزة «الرباب الذهبي» عن مجمل أعماله في «مهرجان الفنون الشعبيّة في المغرب». ينهي بوشناق الحديث كما بدأه مذكّراً بتقهقر الموسيقى العربيّة: «هناك بعض المجموعات التي تحتكر الموسيقى وتفرض سلطتها. بغية البحث عن الأفضل، لا بد أولاً من كسر السلطة الاحتكارية».


5 تواريخ

1952
الولادة في حي الحلفاوين في تونس القديمة

1979
لحّن له الموسيقي المصري أحمد صدقي أولى أغانيه «الليالي الجميلة»

1990
تعاون مع أنور ابراهم في أغنية «ريتك ما نعرف وين»، والمأخوذة عن الموسيقى التصويريّة لشريط فريد بوغدير «عصفور السطح»

2004
سفير الأمم المتحدة للنيّات الحسنة

2010
يعمل حالياً على تسجيل ألبوم غنائي في مديح الأولياء الصالحين