هي المرة الثانية التي تحتفل فيها المسنات في مستشفى دار العجزة الإسلامية بعيد الأم. بدأت الفكرة العام الماضي، حين اقترح العاملون في إذاعة صوت بيروت ولبنان الواحد بمعايدة الأمهات المتروكات في مؤسسات الرعاية
راجانا حمية
ليس صراخاً عادياً، ذاك الخارج من نوافذ الطبقة «ب» في مستشفى دار العجزة الإسلامية. مؤلم فعلاً هذا الصراخ. كأنه يخرج من القلب مباشرة. من «جوّا»، كما تقول تلك السيّدة الثمانينية القابعة منذ أربعة أعوام في إحدى غرف الطبقة «ب» المخصصة لكبيرات وكبار السن في الدار. كانت تبكي، وكان السبب مفهوماً لذاك الصراخ. فأول من أمس، كانت وكنّ، ساكنات الدار، على موعد مع حفل صغير تقيمه إذاعة «صوت بيروت ولبنان الواحد» لمناسبة عيد الأم. كان المطلوب إشاعة شيء من الفرح في الدار لساعة من الزمن، ولكن المناسبة، أقلّه في نظر أمهات معظمهنّ متروكات، لن تكون أكثر من ساعة لاستعادة الذكريات. فهنا، في ذاك الدار، الفرح ليس مهنة أحد.. اللهم إلا إذا كنّ كما رقية، «صبيّة» الدار، التي تعيش الحياة «دايماً up».
أول من أمس، كان الجو في حفل عيد الأم «up وdown». لم يكن موحداً الشعور في تلك القاعة، توزّع بين الفرح العارم والحزن، وإن لم يُترجم علانية. لكنه، في لحظة ما توحّد. حلّ الصمت الموحي بشيء من الألم على وجوه الحاضرين والحاضرات، باستثناء قلّة من المحتفى بهنّ «اللواتي كنّ تحت تأثير العلاج»، كما تشير باسمة، إحدى العاملات في الدار. كانت اللحظة الأكثر بشاعة في هذا المكان بالذات. صمت الجميع، وغنت المطربة «ستّ الحبايب»، فبان صوتها الخارج من المذياع أكثر وضوحاً وأشدّ ألماً. يذكّرهن بأنهنّ متروكات ومتروكون أيضاً. لا أبناء ولا بنات. وحيدون، في الطبقة «ب»، كما المسجونون بأحكام مؤبّدة. لا عفو بعدها.
وحيدون، في الطبقة «ب»، كما المسجونون بأحكام مؤبّدة
لم يستمر الصمت طويلاً، حتى عاد الصخب إلى قاعة الاحتفال، مترافقاً مع موسيقى جديدة، أكثر حيوية. وكأنه انقلاب. تحلّق الجميع حول الطاولة لقطع قالب الحلوى. أكلن وغنّين «لايف» ورقصن، وإن كان بعضهنّ لا يجيد هذا العمل، ولكنّه «الفرح»، تقول سمية. تعي المرأة معنى هذا الشعور، الذي لا تعيشه إلا في حالتين: «عندما يأتي أولادي وبالحفلات متل هيدي». وعن الوقت الباقي؟ لا تملك أكثر من ابتسامة للتعليق على السؤال. هل هو تهرّب من الإجابة؟ أم أنها فعلاً لا تدري كيف تمضي الساعات في الدار؟ لا تعليق. لكن، بالتأكيد أن لكلّ منهم قصّة. وليس بالضرورة أن يكون راوي القصة هو صاحبها. قد يكون الجار في الغرفة أو من يسكن في الطبقة نفسها. ما لم تقله سمية قالته سميرة عنها. قالت إنها «هنا منذ عشر سنوات، لأن زوجة ابنها أرادت ذلك». تجرأت سميرة على التحدث عن حياة صديقتها، أما حياتها هي؟ فبصعوبة بالغة، باحت ببعض ما فيها. قالت إنها في اللحظة «التي كنا نقطع فيها قالب الحلوى، كنت أتمنى لو أنني مع أولادي». رغم أنها فرحة بوجودها في الدار «لأنه بلبنان، بس بضل في شي مش حلو، وقت يكونوا الولاد بعاد». لم يزرها أولادها منذ سنوات، ولكن رغم ذلك ترفض القبول بأنها متروكة. تبرر لهم حتى هذا الخطأ، «لأنهم بطلوا يعرفوا يعيشوا بلبنان وأنا ما قبلت روح معهم على أميركا، لها السبب بس تركوني، بس هنّ بحبوني». تتذكر أسماءهم وأسماء أحفادها، لكنها لم ترهم منذ سنين طويلة. تتذكر فقط وجه ابنتها لينا التي تعيش في بيروت، والتي تزورها مراراً، تطمئنها عن أحوال أشقائها وشقيقاتها. اعتادت سميرة على العيش في الدار، فهي هنا منذ أربع سنوات، أما فدوى، فبالكاد تتقبل فكرة وجودها، وخصوصاً أنها في الدار منذ ستة أشهر فقط. لكن، عليها البقاء هنا «لأني عزابية، وابنة أخي لا طاقة لها على حملي، لها حياتها الخاصة، وأنا لا بيت لي كي أعيش فيه». حال فدوى تشبه حال صبا، العزباء هي الأخرى، ولكن الفارق أن صبا «بعدها تحت نصيبها». تظن أن إقامتها هنا «مؤقتة، يمكن يجوا ياخدوني، قالوا ما بطولوا». تكتفي بكلمتها، وتنادي الصبية التي توزّع الورود والهدايا كي تأتي إليها. تقترب الفتاة منها، تعطيها حصّتها، فتخبئها في حجرها.
ينتهي الحفل الصغير بوردة وهدية. تخلو قاعة الاحتفال من صخب ساعة الفرح، وتعود كل واحدة منهن إلى غرفتها. وكأن شيئاً لم يحصل.