قتل الجيش اللبناني يوم 2 آذار شابّاً من مجدل عنجر وجرح آخر، وذلك خلال عملية أمنية هدفت إلى إحباط محاولة تهريب كمية كبيرة من الدخان. هذه العملية أعادت تسليط الضوء على نشاط المهربين والمخاطر التي يواجهونها
البقاع ـــ أسامة القادري
«مهنة» التهريب ليست ممارسة جديدة على بعض أبناء بلدتي مجدل عنجر والصويري الواقعتين على الحدود السورية. عمر هذه الممارسة من عمر الحدود اللبنانية ـــــ السورية. يروي أبناء القريتين الحدوديتين أن المهربين نشطوا منذ رسُمت الحدود بين البلدين. فبعض الشباب وجدوا هذا العمل بديلاً من البطالة، وذلك لانحسار فرص العمل في منطقة البقاع أو بسبب تدني الرواتب، ما يحتم على الشاب البحث عن نشاط إضافي يسمح له بتحسين مدخوله.
«خط» التهريب بين الحدود اللبنانية ـــــ السورية يشهد حركة ناشطة منذ عقود، والبضائع المهربة متنوعة، إلا أن عملية تهريب الدخان وبعض السلع الأجنبية المستوردة نشطت في منطقة المصنع الحدودية بعد افتتاح السوق الحرة في جديدة يابوس بين المصنع اللبناني والأمن العام السوري.
في هذه السوق تُباع البضائع للبنانيين والسوريين بأسعار متدنية لأنها لم تخضع للضرائب الجمركية.
إذاً، إضافة إلى عمليات تهريب البضائع من سوريا وإليها، وجد المهربون أن العمل في نقل السجائر و«التنباك المعسل» من السوق الحرة، واجتياز حواجز الجمارك اللبنانية، أكثر ربحاً وطلباً.
وسام (اسم مستعار) شاب عمره 26 عاماً، هو من بلدة مجدل عنجر يعمل سائق شاحنة صغيرة مقفلة ذات دفع رباعي تعود ملكيتها لأحد تجار القطنيات الذين يوزعون البضائع على المحالّ والباعة المتجولين. ينقل وسام البضائع من داخل الأراضي السورية إلى لبنان، لكنه ينشط أيضاً في تهريب الدخان، يقول: «لقمتنا مغمّسة بالدم... لو وجدت عملاً بـ600 ألف ليرة شهرياً ما بتشوفني عالطريق...»، بهذه الكلمات بدأ الشاب حديثه، ثم راح يتحدث عن «عتبه» على رجال الجيش اللبناني «الذين يعدّون المهربين مجرمين خارجين عن القانون، ويستحقون الموت». ترتسم على وجه وسام ابتسامة صفراء، ويقول: «ما هي جريمتنا؟ إننا نحاول ألا نجعل الدولة تتحمل همنا».
إذاً، سألتُ الشاب العشريني عن مخاطر عمله والعراقيل التي يواجهها، فاشترط أولاً ألا يُذكَر اسمه الحقيقي، ثم بدأ يتكلم من دون قيد أو شرط، فقال: «التهريب شغلتي منذ سبع سنوات. مهنتي سائق شاحنة، أنقل فيها مواد تنظيفية وسكاكر وأكياس النايلون من الأراضي السورية، وأعبر بها الحدود اللبنانية عبر الجمارك والأمن العام. ليست لي أية علاقة بما أنقله، لكنني أعرف كل قشة بالحمل». يصمت لبرهة، يغمز بعينه، يبتسم ثم يضيف: «بالطبع، المعلم (أي مالك الشاحنة) هو مزبّط الوضع مع الجمارك...». يشرح سائق الشاحنة أن ما يتقاضاه من أجر عن «النقلة الواحدة يبلغ 1500 ليرة سورية، أي ما يعادل 30 $، ثم يردف بأنّ من غير الممكن أن ينقل السائق أكثر من نقلة في اليوم». أيام الاستراحة بالنسبة إليه وإلى من يعملون مثله هي حين يكون «الطريق مكهرب من الجيش، أو حين نعرف أن دورية لمكافحة التهريب آتية من بيروت».
يحمل المهرب بضاعته على ظهره مسافة 3 كلم ليصل بها إلى الأراضي اللبنانية
يقول وسام إن ما يجنيه من عمله سائقاً لا يكفي، وهو بالطبع لا يتمتع بحقوق الموظف أو العامل التي ينص عليها القانون اللبناني، ببساطة لأن رب العمل لم يرد ذلك. وسام لم يفكر في المطالبة بحقوقه، ربما كان لا يعرفها، ولا يعرف أن على صاحب الشاحنة مسؤوليات تجاهه تتعدى الأجرة التي يدفعها له، لأنه يعمل لديه يومياً. الشاب قرر أن «يتحايل» على فقره، يشتري أحياناً «بعض كروزات الدخان والمعسل ويبيعها إلى أصحاب المحال مقابل 1250 ليرة عن كل كروز». ويشير وسام إلى أنه يمتنع عن نقل الدخان وأي بضاعة من السوق الحرة عندما «يطلب منا الجمارك تسجيل قضية، أو ترسيم البضاعة».
جهاد (اسم مستعار) يعمل في نقل صناديق الدخان من السوق الحرة إلى داخل المناطق اللبنانية. قبل أن يسرد تفاصيل عمله في التهريب، يأسف على وفاة أحمد عبد الفتاح الذي سقط أثناء مطاردة مع الجيش، ويقول: «الكلام على تهريب السلاح غير صحيح...»، ثم يشرح معاناة المهرب حتى يحصل على كميات كبيرة من السجائر، «فإدارة السوق الحرة، عممت قبل سنتين قانوناً داخلياً، تمنع موظفيها بموجبه من بيع أكثر من «كروزين» للشخص الواحد، إلا إذا حمل ترخيصاً موقعاً من رئيس مجلس الإدراة». ويضيف جهاد: «إذا حصل المرء على ترخيص، يُسمح له بشراء كرتونة (50 كروزاً)، ويؤخذ الإذن من أحد الضباط السوريين، موقّعاً من رئيس مجلس إدارة السوق»، وفق ما ذكر جهاد الذي يضيف أنه بموجب ما اتفق على تسميته «الترخيص»، يحق للمهرب بصندوق واحد يومياً. هذا التدبير نفسه تمكن بعض المهربين من التحايل عليه. إذ يروي جهاد أن بعضهم استحصل على «عشرة تراخيص».
كيف يجتاز المهرب الحدود و«دوريات الجمارك»؟ يقول: «الرحلة محفوفة بالمخاطر، والمال الذي ندفعه يميناً وشمالاً»، يضحك جهاد وهو يمسح جبينه ويتابع: «كما أن للجمارك مخبرين في السوق، لنا نحن مخبرون يستطلعون الطريق»، ويرى أن التعاطي مع دوريات الجمارك «مسألة هيّنة رأس مالها معروف»، فهو لا ينقل يومياً أكثر من 100 كروز، لأنه ينقلها بسيارة أحد معاونيه الى إحدى الطرق الجردية، ليكمل هو طريقه سيراً على الأقدام. يحمل بضاعته على ظهره مسافة 3 كلم يصل بها إلى الأراضي اللبنانية في منطقة الصويري العقارية، وهناك يكون معاونه في انتظاره. ويجدر التذكير بأن هذا المعاون هو أقله في بداية الرحلة.
يؤكد جهاد أن ما يجنيه من هذه الرحلة الطويلة والخطرة لا يتجاوز «مئة دولار» يتقاسمها مع صاحب الترخيص والسائق.
أما عمليات تهريب كميات كبيرة من الدخان ـــــ يقول جهاد ـــــ «فليس من السهل الحصول على آلاف الكروزات. هناك شركاء يستطيعون دفع ثمنها، وهناك ضباط وتجار كبار يأتون بالتراخيص لأحدهم ليحصل على هذه الكمية، لكن شرط أن يحصلوا هم على ثلث الأرباح»، وفي هذه الحالة يُلخص دور المهربين في هذه الحالة بضمان وصول البضاعة إلى داخل الأراضي اللبنانية على ظهور البغال بدل الحمير.
يلفت جهاد إلى أن أي مهرب يحاول الفرار من أي دورية، أكانت جمارك أم للجيش اللبناني أم لرجال «الريجيه»، لأن غرامة تهريب الدخان توازي عشرات المرات ثمن البضاعة الأصلي. لذلك قد يترك المهرب البضاعة مهما كان ثمنها ويفر هرباً من العواقب المالية التي ستواجهه.
يفصح جهاد بأنه ضمن مجموعة من «المهربين» الذين يتعاونون على دفع ثمن قضية تهريب، وهو ثمن «يطلبه عناصر الجمارك في البقاع»، لافتاً إلى أن الجمارك الذين يتعاونون معهم طلبوا منهم «تخفيف الشغل»، بعد عملية الإحباط التي قام بها الجيش، إلى أن تهدأ الأجواء التي رافقتها. يتابع قائلاً: «في كل مرة بعد أي عملية مصادرة أو إحباط، نجهّز أنفسنا لقضية حتى يسجلها الجمارك»، وفي هذه الحالة يفرض على المهربين الاشتراك بتغطية ثمن صناديق السجائر، والتنباك لتصادرها الجمارك، هذا حسب الاتفاق بينهم.


فليفتحوا لنا المصانع

يشدد مهربو البضائع والدخان على أن «الاتفاقات» التي يجرونها مع رجال أمن لا تشمل مهربي الأشخاص، «لأن قضاياهم ليست من اختصاص الجمارك، بل أجهزة أمنية وعسكرية». ويبدو من كلام مهربي البضائع أنه «لا علاقات مهنية أو ودية» تربطهم بمهربي «البشر»، أولئك الذين يجنون أرباحاً طائلة من نشاط غير الشرعي، ويعرضون حياة المُهَرَبين للخطر.
المهرب جهاد لا يخفي خوفه من استمرار الجيش وبعض الأجهزة الأمنية باتهامهم بتهريب أسلحة، «فالشغلة كلها سياسة بسياسة ونحنا ما إلنا علاقة بكل هالشي». وعند الحديث عن تبادل لإطلاق نار بينهم وبين الجيش، يقول إنه نادراً ما تجد مهرب بضائع يحمل سلاحاً للدفاع عن نفسه من الحيوانات المفترسة التي يواجهها في المناطق الجبلية الوعرة، متمنياً كما الكثير من زملائه أنه «إذا استمرت الدولة في محاربة التهريب عند الحدود، فعليها أن توفر فرص عمل وأبواب رزق للشباب، وإن كانت الدولة مهتمة بالمواطن، فلتفتح معمل السكر، بدل عمليات إقفال معمل وراء آخر».