علي السقا في محاذاة جسر فؤاد شهاب (الرينغ)، يمتد شارع فرعي صغير، يفصل بين مكان تتوافر فيه مقومات الحياة الصاخبة، وآخر أكثر تواضعاً. كنيسة وأبنية قديمة العهد، شهدت جدرانها ومحالّها على بيروت القديمة، ومن ثم على حروب أبنائها في ما بعد. كانت تنبض بالحياة، أما اليوم، فبات الشارع فارغاً. لقد أنجز المقاولون ما فشل فيه المحاربون. أفرغوا المنطقة من سكانها بانتظار تشييد أبراجهم الشاهقة.
عندما تمرّ في الشارع تكاد تظنّه ميتاً لولا صوت أم كلثوم الخارج خفيفاً من المذياع المركون أعلى الرف داخل محل «الفوّال أنور». لا يقطع انسيابه سوى ضجيج محرّكات قلّة من السيارات. أنور واحد من آخر خمسة بقوا في منطقة السريان، وعايش ذلك الحيّ منذ طفولته: «وعيت أنا وإخوتي على هذا الحيّ وكان مختلطاً. كانت علاقات القاطنين هنا كأيّ علاقات بين الجيران، يختلفون ثم لا يلبثون أن يتصالحوا من جديد». يتذكر أنور كيف كان يشارك أترابه في الحيّ مناسباتهم الدينية: «كنت أدخل دائماً كنيسة السريان المجاورة لأمضي الأعياد برفقة جيراننا، قبل أن نخرج منها في مسيرة نلفّ فيها شوارع الحيّ حاملين الشموع. منذ فترة صادفت إقامة مناسبة دينية خاصة بالسريان، هرعت إلى أحد جيراننا السابقين، وتوسلت إليه أن يعود إلى بيته. حاولت أن أطمئنه لكنه أومأ لي برأسه كأنما يريد مسايرتي، ولم يعد».
قبالة كنيسة السريان يقوم بناء قديم تتدلّى من شرفة طبقته الثالثة بعض الأزهار التي تواظب زوجة الجنرال قادري على الاهتمام بها. لقد شارف الزوجان على الثمانين، لم يعودا يطلبان من الحياة سوى القليل من السكون، الذي بات الحصول عليه مستحيلاً بسبب شركات المقاولات، التي تحاول بكل الوسائل والأساليب إجبارهما على مغادرة بيتهما. أكثر ما يثير حنق قادري على المقاولين هو «أنه لا قيمة عندهم للمكان ولا للذاكرة، كأنّ كل شيء يمكن شراؤه بالمال! أنا ولدت وترعرعت ثم تزوجت وزوّجت أولادي وكنت أسكن هذا البيت. لعلمك لا بيت بمواصفاته في هذه المنطقة. انظر إلى القناطر التي تقف فاصلاً بين الغرف، إلى هذه التحف، إلى علوّ السقف، إلى رحابة المنزل، إلى شرفته التي تطل مباشرةً على الكنيسة. كنتَ في ما مضى تظنّ نفسك، أيام الآحاد، مشاركاً المصلّين في صلاتهم. أنا لم أغادر بيتي طوال الحرب سوى مرات قليلة للتدرّب في فرنسا، وأثناء غيابي وضع مسلحو الحيّ لافتة على باب بيتي تهدّد بقطع يد من تسوّل له نفسه دخوله عنوةً. أثناء الحرب كنت أسكن مطمئناً، أمّا الآن، فلا. كل فترة يطرق باب البيت بعض المهندسين، لإقناعي ببيع البناء».
أما أنور، فإنّ ما بقي من مدة إقامته رهن بتسريع بتّ الدعوى المرفوعة ضده من جانب الشركة لعلّة الهدم. المحاولة الأخيرة التي بذلها للبقاء في الحيّ كانت أن «طلبتُ منهم أن يُبقوا لي مترين مربعين لأحوّلهما كشكاً صغيراً لبيع القهوة. رفضوا بحجة أنهم سيحوّلون هذه المساحة إلى عقارات ضخمة وأبراج»، لا مكان فيها حتى لكشك قهوة!