منهال الأمينإلى أين؟ إلى البيت. والطيران؟ لم يكن ليجيب. فجواب حسين* معروف وأسبابه واضحة. هو يبحث عن مكان يغتسل فيه فحسب. فالنظافة قبل كل شيء. وبعد ان هدمت الطائرات الإسرائيلية منازل عدة وهي تطارده، قرر ألا يدفع أحد ثمن مبالغته في الطهارة. فصار بعد انتهاء «الدوام» في نصب الصواريخ وإطلاقها وحدانًا وصليات إلى مستعمرات العدو في فلسطين المحتلة، ينتقل من وسط البلدة إلى منزله، الذي يقع في خراجها ويعتبر خطيراً من ناحية عسكرية، لينجز مراسيم النظافة الخاصة به ثم يُقفل عائدًا إلى نقاط تمركز المقاومين. عمله لا يعرف الليل من النهار. صار يبتكر حتى يتمكن من أداء مهمته على أكمل وجه، مستخدمًا مثلاً أسلاك الهاتف المتقطعة لكي يصنع منها «فتيلا كهربائيًا»، يمكّنه من إطلاق الصواريخ وهو على مسافة كافية للإنسحاب، الأمر الذي يمنع الطائرات التي تلتقط إحداثية الإطلاق، من النيل منه أو من زملائه. لم يكن يعبأ بالطائرات الاستطلاعية أوالهجومية. كان يرد على منتقديه «لن نقاتل إسرائيل من الملاجئ». مسيرته النضالية غير منظورة ولا موثّقة. كان يقضي معظم نهاره في محل الأجبان والألبان، أما ليله، فكان ملك المقاومة. يثور غضبًا إذا ما أوحى أحد رفاقه بعلاقة له بما يجري على الأرض عسكريًا. الإنطباع العام عن حسين أنه كثير المزاح. لطالما حجبت نظارته «كعب القنينة» الإصرار الذي يسيّر الفتى الطموح. غير مبال بالدنيا وما فيها، إلا أنه لم يترك حظه منها، فشُغف باقتناء البنادق المميزة، موفّرًا جزءًا من أمواله لهذه الغاية. كذلك بنى منزلاً ليتزوج ويُرزق بـ «كوثر». برع في الموسيقى والعمل الكشفي، هكذا كان في الظاهر، ولكنه، في الكواليس، كان يعد نفسه ليصبح خبيرًا في المدفعية، وخصوصًا الهاون، وبعدها في الصواريخ، التي صارت المقاومة تعتمد عليها لتثبيت توازن الرعب مع العدو الصهيوني:»أمن اللبنانيين مقابل أمن المستوطنين». صار حسين واحدًا من الكوادر الذين يُعتمد عليهم، وحين شنت إسرائيل عملية «عناقيد الغضب»، كان له صولات وجولات في تنفيذ خطة المقاومة بدك المستعمرات الصهيونية على امتداد الحدود، طولاً وعرضًا.
بعد 15 يومًا من التعب والعرق والجهد والتضحيات، اقتربت المقاومة من تحقيق نصر حقيقي على آلة الحرب الإسرائيلية، ولكن قوة كوموندوس إسرائيلية تسللت إلى مقربة من منزل حسين. قرروا أن ينتقموا منه شخصيًا، بعيدًاعن المواجهة والنزال، كمن له خمسين جندي أو اكثر. بعد أن أنهى طقوسه اليومية، همّ حسين بالخروج من المنزل، أدار ظهره ليقفل الباب، وعن طريق الغدر، أمطره المتربصون بزخات من الرصاص، فمزقوا المكان. إلا أن رصاصة واحدة اخترقت رأسه من الخلف لتنفذ من عينه اليُسرى، كانت كافية ليهوي أمام باب المنزل، ضاماً إلى صدره خرائط عسكرية وإحداثيات وجداول رمي، كانت طيلة الأسبوعين الماضيين زاداً استعان به لأداء مهمته في ضمان انهمار الصواريخ على المستوطنات. وكأنه أراد أن يخفيها عن أعينهم، لعلمه أنهم لن يجرأوا على الاقتراب منه. احتفظ حسين بسره، لا يفشيه لأحد. عبّرأحدهم قائلاً: «كان لا بد له أن يغادر الدنيا بجسد نظيف، كما كان كفه وقلبه على الدوام».
*حسين سلمان: من بلدة شقرا الجنوبية، استشهد يوم 24 نيسان 1996 قبل يومين من انتهاء حرب عناقيد الغضب التي كان أحد أبرز مقاتليها و.. شهدائها