يحتاج الفلسطينيون لرؤية بلادهم إلى تراخيص استخباريّة. تصاريح يستصدرونها ليدخلوا جنوبي الليطاني لرؤية أرض الأجداد. أرض حين يطأونها لن يكونوا بحاجة إلى ترخيص من أحد
قاسم س. قاسم
تخبر ناديا أصدقاءها بأنها ستذهب لرؤية فلسطين غداً. الصبية العشرينية لم تكن بحاجة إلى استصدار ترخيص استخباري من ثكنة محمد زغيب في صيدا لزيارة أراضي الجنوب المحررة. الفرصة سانحة لها الآن لأن حزب الله أو إحدى الجمعيات التابعة له قد نسّقت رحلة لأبناء المخيمات الفلسطينية لزيارة الحدود اللبنانية الفلسطينية المحتلة ليتمكنوا من رؤية بلدهم بمناسبة النكبة. شباب المخيم جهّزوا أنفسهم استعداداً للرحلة، تسلحوا بكاميراتهم لالتقاط صور لأرض أجدادهم، ففلسطين بالنسبة إليهم وإن لم تفارق قلوبهم لا تشاهد بأمّ العين إلا مرة أو مرتين في السنة في أحسن الأحوال، وذلك في ذكرى النكبة أو في ذكرى التحرير، والمناسبتان لا تبعد إحداهما عن الأخرى إلا عشرة أيام. هكذا، استعدت الحافلات لنقل أبناء المخيمات. بعض الشبان لم يناموا الليل، بل انتظروا ظهور الخيط الأبيض من الخيط الأسود للانطلاق لرؤية بلدهم، فالرحلة تستحق عناء السهر، «كيف بدّي أنام وبكرا بدّي أشوف فلسطين لأول مرة بحياتي»، تقول الفتاة. آخرون اعتادوا مثل هذه الزيارات، وكانوا قد قاموا بها أكثر من مرة، ليفاخروا بذلك أمام من يزورها للمرة الأولى وليكونوا دليلاً سياحياً لهم في المنطقة الحدودية.
منطقة جنوبي الليطاني منطقة عسكرية، حيث توجد الحدود مع فلسطين والانتشار العسكري كثيف للجيش اللبناني وقوات اليونيفيل
الساعة السادسة صباحاً، تنطلق الباصات باتجاه الجنوب. الأعلام الفلسطينية ترفرف من خارج الشبابيك، أصواتهم التي رافقت الأغاني الثورية لا تختفي. يصلون الى حدود جنوبي الليطاني، يجتازون حواجز الجيش كأنها غير موجودة، إيماءة الى عنصر الجيش اللبناني تكفي، فالرحلة كانت قد أعدّت سلفاً والتنسيق الأمني كان قد تم بين الجهات المنظمة للرحلة والجيش اللبناني لتأمين مرورهم على أعلى مستوياته. يدخلون جنوبي الليطاني، المنطقة التي سمعوا عنها كثيراً في النشرات الإخبارية، تزداد حماستهم أكثر، فهم اقتربوا من فلسطين أكثر. هنا يتغير نمط الأغاني، ليرددوا «والله ما نسينا والله ما نسينا فلسطين بلادنا وجوّا عينينا»، كأنهم يؤكدون بذلك هويتهم الفلسطينية. زائر هذه الأراضي للمرة الأولى تدهشه طبيعة الجنوب، يتأمل الأودية والصخور ربما «شفنا شباب حزب الله»، يعلّق أحدهم ضاحكاً. «والله حلو الجنوب، حقّهم يستشهدوا كرمالو» يعلّق آخر. هكذا، يستغل الفلسطينيون المناسبات الوطنية اللبنانية والفلسطينية على حد سواء من أجل زيارة الحدود اللبنانية مع بلادهم من دون الحاجة الى ترخيص. لكن، كيف يمكن الأجنبي والفلسطيني الذي يعدّ واحداً منهم أن يستصدر مثل هذه الوثيقة لرؤية أرضه ساعة يشاء؟ يمكن طالب مثل هذه التراخيص التي هي عبارة عن سلسلة أرقام تعطى للشخص، أن يتوجه الى ثكنة محمد زغيب في صيدا، على أن يرافقه احد ابناء القرى الجنوبية المحررة ليكون كفيله. يعبئ المرء استمارة عن مكان سكنه، الطابق الذي يعيش فيه، وبعض الاسئلة عن من هم اصدقائه، الهدف من الزيارة والفترة الزمنية التي ينوي فيها زيارة المناطق الجنوبية المحررة. يمكن ان تكون هذه اسئلة للضرورات الامنية، وخصوصاً أن جنوبي الليطاني والمناطق المحررة الجنوبية تعدّ في هذه الأيام وبعد حرب تموز منطقة عسكرية بحتة طبقاً للقرار الدولي رقم 1701. لكن هذه التراخيص ليست حكراً على الفلسطينيين فقط، بل انها مطلوبة من جميع الاجانب الذين ينوون دخول جنوبيي نهر الليطاني. كما ان استصدارها ليس بالأمر السهل دائماً، اذ يجب على طالب الترخيص انتظار الموافقة على طلبه. الموافقة لن تكون سريعة، بل يجب الانتظار خمسة عشر يوماً وذلك للتأكد من الخلفية الأمنية لطالبه.
كيف بدّي أنام وبكرا بدّي أشوف فلسطين لأول مرة بحياتي
ليست جميع الرحلات الى جنوبي الليطاني بهذه السلاسة والسهولة. «سيدنا في اتنين فلسطينيّ بالسيارة»، يقول الجندي الواقف على الحاجز على باب ضيعة جزين المحررة. «نزّلهم من السيارة، وفتشّها» يأمره الضابط. الشباب لم يكونوا محملين بصواريخ ينوون اطلاقها على شمال فلسطين المحتلة، الحكاية فقط أنهم تاهوا في منطقة البقاع ووصلوا الى جزين «كنا وقتها عمّ نكزدر»، يقول وائل. وائل لا ينكر بأنه كان يعلم بأنه سوف يتعرض لإشكالات امنية على الحاجز بحال معرفة جنسيته. لكن المشكلة كانت أن «البنزين كان رح يخلص، ومش قادرين نرجع لأنو ساعتها بتنقطع فينا السيارة والدنيا ليل كان وقتها»، يقول. يروي وائل قصته، «أنزلنا انا وسعيد من السيارة، تم تفتيشنا، أخذوا هوياتنا، وطلبوا منا الانتظار في السيارة» يقول. الشابان كانا قد أصدرا مسبقاً ترخيصاً استخبارياً يجيز لهما الدخول الى المناطق المحررة في الجنوب. «بس لما مسكونا كانت خالصة مدة التراخيص» يقول وائل. يكمل الرجل سرد روايته، «جلسنا في السيارة بانتظار الإذن بالمرور، بعد ساعة سمح لنا الضابط المسؤول بالمرور، قائلاً بأننا لو أعدنا فعل ذلك مرة أخرى فإنه سيتم سجننا». بالطبع الإجراءات لا تعجب الشابين، لأنه «بالغلط، وصلنا لجزين، كنا عم نتغدى بالبقاع ما لقيناش حالنا الا صرنا بجزين»، كما يقول وائل. لكن ما هو رأي الجيش اللبناني وتحديداً مديرية التوجيه في هذا الموضوع؟ ولماذا الحاجة الى مثل هذه التراخيص. يجيب العميد صالح الحاج سليمان مدير مديرية التوجيه في الجيش اللبناني عن هذا السؤال فيقول إن «منطقة جنوبي الليطاني منطقة عسكرية، حيث توجد الحدود مع فلسطين والانتشار العسكري كثيف للجيش اللبناني وقوات اليونيفيل، وإن هذه التدابير متخذة منذ عشرات السنوات، ومن يريد الوصول اليها بحاجة الى تصريح مسبق، حتى اللبناني خارج المناطق المحررة كان بحاجة الى مثل هذه التصاريح حينها». يضيف سليمان «حالياً اللبناني يستطيع التجول في جنوبي الليطاني عبر ابراز هويته فقط، أما الأجنبي مهما كانت جنسيته، فعليه استصدار هذه التراخيص لمعرفة زائري هذه المناطق». لكن، ماذا عن الرحلات التي تنظّم الى جنوبي الليطاني؟ يجيب سليمان «دائماً هناك تنسيق بين الجهات المنظمة والجيش اللبناني حيث يكون لدينا معرفة مسبقة بالعناصر الذين يريدون الدخول وزيارة الأراضي المحررة». وماذا عن المسيرات الحدودية؟ يجيب سليمان «حتى المسيرات التي تحصل تخضع للإجراءات المتبعة في وزارة الدفاع ووزارة الداخلية والبلديات». هكذا، سيبقى الفلسطيني «أجنبياً» لا يستطيع انتحال صفة حتى سائح للإطلال على فلسطينه، ولو كانت تلك الإطلالة ستتيح له أن يشاهد فقط ما بناه المستوطنون. يبقى الهواء الفلسطيني وحده عصيّاً على الأسر والتراخيص.