عشرات الشبان من مصر والسودان والعراق وغيرها يدخلون لبنان بطريقة غير شرعية بحثاً عن فرصة عمل. يسلّمون أمرهم لشبكة من السماسرة والمهربين، فيُكدّسون في زرائب للحيوانات وفي سيارات بيك آب، ويمسون «البضاعة»
البقاع ــ أسامة القادري
قبل نحو ثلاثة شهور اتخذ أبو رئيف (اسم مستعار) قراراً بالتقاعد. الرجل كان يعمل مهرباً، يساعد عمالاً من دول عربية وأجنبية بالدخول إلى لبنان، ولكن بطريقة غير شرعيّة.
يقول الرجل الخمسيني «مهنة تهريب الأجانب خطيرة، ومردودها كبير، لكنها في المقابل تحتاج إلى رأسمال، وشبكة علاقات واسعة، تبدأ من مصر والسودان، ولا تنتهي بإثيوبيا والعراق وسوريا، وتركيا وأثينا». المقصود هو العلاقات بين السماسرة والمهربين. يشرح أبو رئيف أن «السماسرة الذين نعتمد عليهم اليوم هم أشخاص، هربوا سابقاً إلى لبنان من مصر والسودان والعراق، ثم عادوا الى بلدانهم، وعبرهم نبني شبكاتنا، وهم يؤمنون زبائن لنا». يؤكد أبو رئيف أن الهاتف أهم أدوات العمل، فـ«المهرب إن فقد خطه الخلوي يفقد جزءاً أساسياً من عمله».
المحطة الأهم في كلام أبي رئيف تتمحور حول عمليات تهريب السوادنيين، الى لبنان، يقول إن «السماسرة في السودان هم الذين يتواصلون معنا، ومع المهرب السوري»، يعملون على جمع أعداد كبيرة من الأشخاص، يدخلونهم الى الأراضي السورية عبر المطار بطريقة شرعية، «ثم يعمل مهربو لبنان على إدخالهم إلى بلادنا، في الأسبوع تتم ثلاث رحلات أيام السبت والاثنين والخميس، وفي كل رحلة 200 شخص، بينهم على الأقل 50 سودانياً، وحوالى 20 عراقياً»، ويلفت أبو رئيف إلى أن نسبة دخول العراقيين الى لبنان تضاءلت في الفترة الأخيرة.
يروي الرجل الخميسني «أنه فور وصول الطائرة من السودان الى مطار دمشق يكون في انتظارها دلالون من قبل المهربين السوريين، وينقل كل واحد منهم الأشخاص المتفق عليهم مع سماسرة، الى منطقة المرجة في دمشق بواسطة الباصات المخصصة لنقل الركاب من المطار»، وفي هذه الأثناء يأخذ كل مهرب «الأشخاص المخوّل تهريبهم، الى أماكن نائية وحدودية، للمبيت فيها، تمهيداً لنقلهم الى الحدود اللبنانية وتسليمهم للمهرب اللبناني، الذي تم الاتفاق معه على أجرة نقلهم من الحدود السورية الشمالية الى داخل بيروت.
يقول أبو رئيف «مقابل 200 دولار عن كل واحد، هذا الأمر يتطلب المتابعة الدقيقة من رأس «الهرم»، مع معاونيه. باعتبار أن كل مهرب معه أفراد، توكل لكل واحد منهم مهمة تختلف عن مهمة الآخر». تكتيك آخر تتبعه شبكة التهريب، فـ«من غير المعقول تهريب 50 أو 70 سودانياً في وقت واحد»، بل يُقسَم العمل الى مراحل وفي مناطق متعددة إلى أن يتم تجميع الشبان في مكان واحد، يكون في منأى عن أنظار السلطات والمخبرين.
بعد التسلل إلى لبنان، يُطرح سؤال نقل المتسللين إلى بيروت، يضحك أبو رئيف ويقول «كلما وصل فوج (من العمال) نخزّنه حتى يأتي الباقون، عملية التخزين قد تستمر أحياناً ثلاثة أيام، علينا أن نؤمن لهم المنامة والأكل والشرب».
عملية التخزين هي أكثر المحطات إيلاماً في رحلة العامل الباحث عن فرصة عمل، رغم المخاطر، يقول أبو رئيف «نجمعهم في زرائب للمواشي أو في بيوت مهجورة، ثم ينقلون الى بيروت بواسطة سيارات بيك آب معدّة لتحميل الخضار، أو الفانات وأحياناً الشاحنات، «نكدّسهم فوق بعضهم في أرضية البيك آب، ونتفق مع رجال من قوى الأمن لتسهيل عبور السيارة على طريق ضهر البيدر. عند هذه النقطة يكرر أبو رئيف «شغلتنا بدها شبكة علاقات، تبدأ بالعسكري والضابط وتنتهي عند السمسار».
أما عن حالات وفاة «هاربين» إلى لبنان ورمي جثثهم في مناطق زراعية، يقول المهرب سعيد (اسم مستعار) إنها تتم لسببين أن المهرب السوري يضعهم في أماكن مهجورة فترة ثلاثة أيام من دون طعام، ليأتي يوم «الترحيل والمشي المتواصل 7 كلم في الجبال الوعرة»، ما يحتاج إلى الجهد الجسدي، ويضيف «عينك ما تشوف شو بيعمل فيهم الجوع والتعب والبرد»، بعضهم لا يحتمل هذا الجهد فيموت. أما السبب الثاني فيرده سعيد الى الانتقام العشائري، والانقسامات السياسية بين بعض الهاربين. «في هذه الحالة يتم التخلص من جثة الميت برميها عند جانبي الطريق لكون المهرب لا يمكنه التبليغ عن هذه الحوادث في عمله غير الشرعي والقانوني». تمكنت قوى الأمن في فترات مختلفة من ضبط سودانيين شاردين في الجبال. ويرى سعيد أن سبب «ضياع هؤلاء الهاربين مرتبط ببعض «الدلالين» الذين يعملون لحسابهم، وقبل وصولهم الى المباني في القرى البقاعية يوهمون «الشباب» بأن الأنوار التي يرونها هي في مدينة بيروت، فيتقاضون أجرتهم ويهربون».
يقول سعيد إن «ثمن فتح الطريق مع القوى الأمنية والعسكرية، وأجرة السيارات والشاحنات، عدا عن الأكل والشرب والمنامة «للبضاعة» ـــــ يقصد الهاربين ـــــ أما «الدلول فأجرته على النقلة الواحدة 30 دولاراً، وإذا ضبط، نوكل له محامياً، وندفع عنه كل الغرامات المالية». يكشف المهرب الشاب أن معظم رجال القوى الأمنية والعسكرية يرفضون الرشوة، فيحاول المهربون تفاديهم، ولكن من يرتشي يطلب من المهربين مبالغ مالية على نحو دوري.
سعيد يلفت إلى أن الهاتف الخلوي من أهم وسائل التواصل مع مختلف أعضاء شبكات التهريب، ولهؤلاء لغة موحّدة للتحايل على أجهزة التنصّت، «لا نقول الأشياء بأسمائها»، فـ«25 صندوق باذنجان يعني خمسة وعشرين سودانياً، وصندوق الكوسا يعني مصري، والعراقي تمر».
يحكي متسلّلون توقفهم قوى الأمن عن تعرضهم لعمليات سلب ونصب من قبل المهربين. يبتسم سعيد حين يسمع كلاماً مماثلاً، ويرى أن في الأمر «افتراء... لا نقبض إلا بعد توصيلهم الى النقاط المحددة لهم، وسيطهم السوداني في لبنان هو من يعطينا الأجرة، وإن لم نجده نضطر إلى حجز جوازات سفرهم».
يجزم سعيد أن المتسللين العراقيين والسودانيين يمكثون في لبنان لشهور قليلة، حتى يجمعوا مصاريف الدخول الى الدول الأوروبية. رحلة المغادرة تتم أيضاً عبر شبكة مهربين، بحيث يخرج يومياً حوالى 40 شخصاً من لبنان الى سوريا، وعبرها الى تركيا، ومن هناك الى ألمانيا وإيطاليا، شبكة مهربين واسعة. يقول سعيد «ننقل العراقي عبر سيارات عادية، أما السوداني فنضطر إلى وضعه في صندوق السيارة لأن لون بشرته الداكن يسهل كشفه، وهذه الطريقة يستعملها بعض المهربين أثناء عبورهم مركزي الأمن العام والجمارك اللبنانيين، وصولاً الى السوق الحرة في المنطقة الفاصلة بين لبنان وسوريا حيث يكون في انتظارهم المهرب السوري، الذي يكون دوره نقلهم الى داخل الأراضي السورية، وتسليمهم لمهرب عند الحدود السورية التركية، ومن هناك ينقلهم المهرب التركي الى اليونان، وكلفة الوصول إلى أوروبا تتراوح بين 3 و4 آلاف دولار».


رحلتي من السودان إلى لبنان

عازوم المحمد (25 عاماً) سوداني وصل إلى لبنان قبل أسبوع.
هرب الشاب من جنوب السودان بسبب الوضع الاقتصادي المتردي. تعرّف عازوم إلى «الوسيط» الذي أقنعه بالهروب من بلاده إلى لبنان «مقابل 1200 دولار».
في سوريا، تعرف العازم إلى «العميل» فسلّمه المبلغ المتفق عليه مع «الوسيط» ثم «تم نقلنا الى منطقة بعيدة ونائية، بتنا في مزرعة للدواجن قرابة اليومين، من دون أكل، كنا 53 من مناطق مختلفة في السودان، ومعنا باكستانيون وعراقيون». عند الحدود اللبنانية «قُسّمنا الى خمس مجموعات، مشينا ليلاً مسافة طويلة ومتعبة، البرد والجوع من الصعب تحملهما»، ويتابع إن «اللبناني الذي اتفق مع الوسيط السوري لم يكن نفسه الذي رافقنا في رحلتنا الجبلية، يبدو أنه كان مرشدنا لأنه كان يمشي أمامنا وينبّهنا من ضجيج أصواتنا، وأن لا نتركه حتى لا نضيع في الظلام». في البقاع، بات الشاب في «زريبة للمواشي في منطقة نائية، ثم دَبّر لنا حافلة نقل كبيرة، واشترط علينا حتى نصل الى بيروت، أن ننام في أرضية الشاحنة وتمت تغطيتنا ببعض الصناديق الفارغة».