نبيل عبدو«هوية بيروت راحت، من زمان كانت المدينة للبيروتيّين، هلّق صارت كلها غرباء»، يقول لنا ناسج الحرير بتحسّر. أما صديقه، الموظف المتقاعد، فيعقّب: «بدّي قلّك كلمتين: قبضايات وجبناء، وما بقي قبضايات ببيروت». نحاول استدراك الأمر لنصوّب الحديث، فنسأل عن العمران القديم الذي يتهدم، والأبراج التي تظهر فيجاوباننا: «من زمان كانت البنايات كلّها طابقين، والجيران يعرفون بعضهم بعضاً، ويجلب بعضهم لبعض المأكولات، أما الآن، فكل شخص يعيش وحده. غداً إذا أتى أحد المقاولين وعرض عليك أن يأخذ أرضك مقابل إعطائك عشر شقق في الأبراج التي سيبنيها، فماذا ستفعل؟ ستبيع لأنو ما في قبضايات بالبلد!». حينها، يتدخل الرجل الثالث وهو «يعمل بالكهرباء»، فيقول إنّ «هدم المباني القديمة أمر طبيعي، إذ إنها لا تتمتع بمواصفات السلامة، وانتهت صلاحية سكنها، كما أنها وليدة زمن ولّى». يوافقه رفيقاه. وماذا عن الهوية المعمارية لبيروت، يجيب بثقة: «كل المدن تتغيّر، حتى في أوروبا يهدمون المباني القديمة». مفاجأة تلك الإجابات لا تُتوقّع من أهالي بيروت القدامى، نسأل عما يميّز بيروت عن باقي المدن في غياب مبانيها الأثرية، فيجيب أحدهم بفخر: «أهالي بيروت طيّبون، فمثلاً لو كنتم تتحدثون مع غيرنا لكانوا طردوكم، لأنكم لا تستوعبون ما نقوله لكم منذ مدّة!».
بعد حوار مع بيروتيين «أصليين» عمرهم من عمر تحولات المدينة، تبدأ بالتساؤل عمّن يقف خلف طمس المدينة؟ هل هم أهلها الذين يرون أنّ من الطبيعي طمس جزء من التاريخ المعماري لبيروت؟ أم هم «الغرباء» الذين توافدوا إلى العاصمة؟ لن تتعجّب من الاستخفاف الرسمي تجاه حماية المباني الأثرية أو الأماكن العامة حين يكون أهلها غير مبالين أيضاً.
صادفنا شاباً عشرينياً يسكن في الحي، هو آتٍ من شمال لبنان، فنسأله عن تجربته، وماذا تمثّل المدينة بالنسبة إليه، يبتسم بأسف، ويقول: «وصلت إلى بيروت باحثًا عن كلمات إلياس خوري وغادة السمّان بين أزقّتها، فإذا بي أحتَضن بمرارة سكانها «الأصليين»، ويبتلعني غبارها وزحمتها وأبراجها». جواب يثير الفضول، نطلب منه أن يروي كيف يرى هوية بيروت، يجيب: «أرى بيروت كمدينة مكتظة تبتلعها الأبراج وتأكل ساحتها، غالباً ما أذهب إلى شارع الحمرا وأحاول استعادة زمن لم أعشه، متجاهلاً ما آل إليه في ظل اجتياح محال الثياب».
نجلس على أدراج الأبنية المعرّضة للهدم، نصغي إلى رواياتها. كانت لها خصوصية معمارية، وحكايات عن مدينة صنع جمالها وحراكها الثقافي أهلها، و«غرباء» توافدوا إليها سعياً وراء أحلامهم.