يغرق مزارعو البقاع في بحر من الإهمال، ما يدفعهم أحياناً لتقديم الربح السريع على حساب النوعية في إنتاجهم. أما كميل عاقوري، فقد التزم وأسرته بأولوية النوعية، فبات المزارع البقاعي الوحيد الذي يقصده الجميع لزراعاته العضوية الصحية
البقاع ــ رامح حمية
في خضم المعاناة الغذائية الزراعية في البقاع، يصر المزارع كميل عاقوري، عبر اعتماده الزراعة العضوية، على إطعام عائلته لقمة ملؤها الصحة والعافية، لإيمانه بأن الزراعات التقليدية الحالية تكاد لا تخلو من شوائب الكيماويات والمبيدات المضرة بالصحة والبيئة معاً.
كيف لا وابن بلدة شليفا قد رضع حب الأرض «أباً عن جد»، فما أدركه وهن ولا تملّكه الطمع بالربح الوفير. اختار البيئة والجو النظيفين في أعالي بلدته (مزرعة بيت مطر)، واستقر هناك، في منزل متواضع، تلفّه تشكيلة رائعة من الأشجار المثمرة والحرجية، تتموضع في ما بينها مزرعة للدواجن وأخرى للمواشي وخيم بلاستيكية للزراعات العضوية التي تمر بجانبها ساقية مياه اليمونة. يملك العاقوري بيتاً آخر في جبيل، لكنه «لا يستهويه»، فتخلى عنه لأولاده الذين لم يتركهم يبتعدون باختصاصاتهم العلمية عن الزراعة والأرض. هكذا، أنشأ عائلة زراعية متكاملة: تخرجت ابنته بترا مهندسة زراعية، وكذلك فعل ابنه بول، أما بيار البكر فقد أتقن ما لقنه إياه والده من خبرة عملية، فيما لا يزال ولداه الصغيران في المدرسة ينهلان منه يومياً أصول العمل الزراعي. فالتعاون العائلي هو العنوان الأبرز لمزرعة عاقوري، حيث العائلة بأكملها تتقاسم الأعمال من زراعة وري وتعشيب وقطف، فضلاً عن التصنيع الذي تتولى شؤونه الزوجة.
فكرة الزراعات النظيفة الخالية من المبيدات والكيماويات ليست بحديثة عند عاقوري ابن الثمانية وخمسين عاماً، فهو يؤكد أن القرى التي ترعرع فيها تتمتع بجو نظيف في الوقت الذي لم يستخدم يوماً في زراعاته أي نوع من الكيماويات حتى في مكافحة العشب الضار، حيث كان يقدم على تعشيبه بكل صبر وجلد. أما الزراعات العضوية بطريقتها العلمية فهي «ما كان ينقصه»، وقد تحقق يوم زاره وفد من كلية الزراعة في الجامعة الأميركية ــــ حوش سنيد البقاع، أعجب أعضاؤه بنوعية التربة والجو النظيف في مزرعة بيت مطر، إذ وجدوها تتناسب كثيراً مع الزراعات العضوية، فساندوه كثيراً.
كان عام 1998 بمثابة نقطة الانطلاق في الزراعة العضوية. وكان عدد الذين انطلقوا في ركبها 13 مزارعاً، أقدموا جميعاً على تعقيم أراضيهم بالسماد الحيواني حتى خلت من جميع الملوثات، فأتت منتجاتها فريدة وذات نوعية وكمية مميزة. إلا أن المشكلة التي واجهتهم، بحسب عاقوري، تمثلت بالتسويق وبيع المنتجات «التي كانت تذبل في أسواق بعلبك ولا أحد يشتريها»، الأمر الذي أطاح المزارعين جميعاً، فلم يبق إلا عاقوري بمفرده على مستوى البقاع، لقناعته والتزامه بإنتاج زراعة عضوية صحية، وإن انتقده البعض متهماً إياه «بالسذاجة» لبقائه على الزراعة التي لا تُصرف.
عام 2000 تغيّرت الأمور وبدأت بالتحسن مع تعرف أبناء المنطقة على الزراعات العضوية، كما السياح الذين باتوا يحضرون في جولات سياحية، الأمر الذي زاد في نسب الطلبيات على تشكيلة عاقوري الواسعة من الزراعات، بدءاً من الخضار والفواكه، مروراً بالحشائش والألبان والأجبان والبيض البلدي، وصولاً إلى المنتجات المصنّعة والـ(compote)، أي الفواكه المحفوظة من موسم لآخر. كما لفت عاقوري إلى أنه، بالإضافة إلى زبائنه البقاعيين الذين يواظبون على شراء منتجاته من الزراعات العضوية، يصرّف منتجاته أيضاً في المدينة، من خلال مؤسسة «سلة الصحة» الغذائية، حيث ينفرد في توفير أنواع عديدة وغنية للمؤسسة، يتميّز بها عن غيره من المشاركين الذين يحضرون «أنواعاً محدودة وبفترات غير محددة». المهندسة الزراعية بترا عاقوري رأت من جهتها أن الخطوة التي أقدمت عليها أسرتها كعائلة كانت رائدة في البقاع، بفضل «إصرار الوالد ونجاحه في دفعنا إلى التعلق بأرضنا والتحكم بنمط غذائنا لجهة سلامته»، فالمزارع برأيها لا يحتاج إلى الأدوية والمبيدات والكيماويات إذا ما تعرّف أكثر على مزروعاته وأشجاره وتقرّب منها، عبر مراقبتها والاهتمام بها، فوالدها يرش الأشجار والمنتجات الزراعية بالمواد العضوية غير المضرة كالجنزارة والزيت الشتوي والكبريت والمغذيات كالطحالب البحرية.
وعليه، وقبل التفكير في اللجوء إلى الزراعات العضوية، ينبغي على كل مزارع بقاعي أن يفكر في الغذاء الذي ينتجه بعيداً عن هواجس الكمية والربح، وعن همّ رد ضمان الأرض، في الوقت الذي يقع على الدولة العبء الأكبر في أن تساند المزارعين بالتعويض عليهم عند تعرضهم للخسائر فعلياً، وهو بالتأكيد ما سيدفعهم إلى التفكير السليم بالزراعات الصحية التي تحفظ البيئة والإنسان معاً.