عمر نشابةتحطّ الطائرة في مطار رفيق الحريري الدولي بعد تحليقها فوق شاطئ المدينة والشواطئ المجاورة شمالاً وجنوباً، مستطلعة مظاهر السطو على الأملاك البحرية العامّة. وكأن الملاح أراد تعريف القادمين إلى بلاد أكبر صحن حمّص وتبّولة في العالم خصوصية إضافية يتفوّق فيها اللبنانيون على الإسرائيليين وغيرهم بأشواط. فسلطة القطاع الخاص في لبنان تتفوق على جميع السلطات. أما معايير الأنانية الفردية فتتقدّم جميع الاعتبارات الأخرى، بما فيها القانون والدستور والمراسيم التطبيقية. «أهلا وسهلاً بكم في مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت. الجو صاف والحرارة 25 درجة، الرجاء من ركاب الطائرة البقاء جالسين في مقاعدهم حتى وصول الطائرة إلى مكان توقفها» تقول المضيفة عبر المذياع وكأنها لم تقل شيئاً. ينشغل الركّاب بجمع أغراضهم وترتسم ابتسامات حماسية على وجوههم. يرتفع صوت المضيفة داعية الركاب للمرة الثانية إلى الجلوس في أماكنهم. لكن رغم تحوّل نبرة المضيفة إلى توجيه صادر عن السلطة المسؤولة عن الطائرة ومن فيها، يشعر معظم الركّاب منذ لحظة مشاهدتهم أرض بلادهم من نوافذ الطائرة ألا سلطة تحكمهم سوى «حبّ الوطن» والشغف للقاء أحبائهم.
ما إن يفتح باب الطائرة حتى يتجمّع أشخاص باللباس العسكري وآخرون باللباس المدني ينادون بلطف شديد «مدام فجلة. مدام فيوليت فجلة» و«دكتور فؤاد. دكتور فؤاد دعبول». و«أستاذ حسين. أستاذ حسين الطبل». يعرّف هؤلاء عن أنفسهم بغرور مقنّع، متباهين بالاستقبال الخاصّ الذي يميّزهم عن باقي الركّاب. «أهلاً وسهلاً مدام/ دكتور/ أستاذ» يقول المستقبِل مبتسماً «تفضّلوا معي». وبدل انتقال هؤلاء الركاب المميّزين إلى «صالون الشرف»، يمشون مع مرافقيهم بخطى سريعة إلى جانب باقي القادمين نحو «كونتوار» الأمن العام حيث يتسلّم المرافق جوازات سفرهم ويعطيها للموظف ليمرّرها قبل تمرير جوازات سفر الآخرين.
أما الركّاب العمال والعاملات القادمون من إثيوبيا وسريلنكا والفيليبين ومدغشقر، فيسمح موظفو الأمن العام لأنفسهم، خلافاً للقانون والدستور والاتفاقيات الدولية التي تعهّد لبنان احترامها، بمصادرة جوازات سفرهم وبطاقات الإقامة وإجازات العمل التي في حوزتهم، إلى حين وصول «مستخدميهم» لاستلامهم. ولا يخضع هذا الإجراء الذي لا يمكن توصيفه إلا بـ«العنصري» لاعتراض قضائي، رغم أنه يُعدّ تجاوزاً فاضحاً للقانون. فالاعتبارات الفردية الخاصّة تتفوّق على القضاء والقانون والدستور، ويتقدّم التذاكي المبادئ الإنسانية والقواعد الأخلاقية. «ماذا لو هربت؟»... «كيف يمكن أن نتركها تخرج حرّة من المطار؟» علماً بأن تلك الأسئلة «لا يجوز» طرحها إذا كان العامل أو العاملة من دولة أوروبية غربية مثلاً أو من شمال أميركا، و«لا يجوز» أن يعامل اللبنانيون «كالعبيد في دول الخليج» و«لا نقبل» أن تصادر جوازاتهم بسبب خشية مستخدميهم «هروبهم».
غير أن «كل شي بيتظبّط ولا يهمّك» فعندما يتعلّق الأمر بالمنفعة الفردية لبعض اللبنانيين، كلّ شيء قابل للتسوية والمساومة ولو كان على حساب الأصول والمبادئ.
«تاكسي تاكسي تاكسي ... تاكسي عيني؟». «ثلاثين دولار بوصلك على باب البيت» ينادي سائق سيارة أجرة منافساً زملاءه الذين ينتظرون دورهم. السائق الذي «صودف مروره» بطريق المطار، يصرّ على اصطياد زبائنه. «عشرين دولار تفضّل أستاذ». ينتزع الحقائب من يد المسافر مبتسماً ويضعها في صندوق السيارة. «أهلاً وسهلاً في بيروت عيني. لوين؟».