النموذج السويسري الذي تشبه به ميشال شيحا لا يصلح للبنان. فالفارق بين التعدديةالسويسرية واللبنانية هو فارق في درجة التطور التاريخي، وليس فارقاً بنيوياً. هذه خلاصة مؤتمر فكري عقد في بيروت أمس لم يخل من توجيه رسائل سياسية بين مختلف الأطراف
بسام القنطار
«لبنان سويسرا الشرق»، من كان يحتفظ ببعض الوهم في واقعية هذا الشعار الذي أُطلق في خمسينيات القرن الماضي، أمكنه أن يبدده في مؤتمر مركز كارنيغي للشرق الأوسط أمس عن «إدارة التعددية ـــــ الخبرات السويسرية والتجربة اللبنانية» الذي عقد في فندق مونرو في بيروت.
نجح المركز الذي أسسته في بيروت عام ٢٠٠٦ مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، ومقرها واشنطن، أن يجمع حشداً من السياسيين والباحثين اللبنانيين والسويسريين، وعلى رأسهم الرئيس السابق للاتحاد السويسري فرنسوا كوشبان. السفير السويري في بيروت فرنسوا باراس معجب بالمشي في الجبال والوديان، وهو يمضي ساعات طويلة من وقته في اكتشاف الطبيعة اللبنانية. لكن باراس اكتشف أمراً آخر في لبنان أيضاً. فاللبنانيون الذين يتحدثون طويلاً عن الفدرالية والحياد والتعددية التي تميز النظام السياسي في سويسرا لا يفهمون حقيقة هذا النظام لدى مقاربتهم مدى القدرة على تطبيقه في لبنان.
قبل أن ينزل عن المنصة، قدم باراس رئيسه السابق كوشبان، الكاثوليكي الذي يتحدث الفرنسية والذي حكم سويسرا مرتين ولم يخسر اي انتخابات في ٢٥ جولة ديمقراطية خاضها في بلد يعتمد النظام النسبي. ميزة سويسرا بالنسبة إلى كوشبان هي في حفاظها على تقاليد المساواة التي أدت إلى تطوير النظام الديموقراطي الذي تعيشه سويسرا اليوم. «العنف موجود دائماً في حياتنا، لذلك نظمنا قواعد أخلاقية تضع مسافات بين الأشخاص وتسمح بتفادي العنف» كما قال.
يعود كوشبان إلى مرحلة كان فيها طالباً. يستذكر كيف كان الأساتذة يعرضون عليهم صورة طنجرة وحولها جنود يحاولون تغميس خبزهم فيها. أصبحت هذه الصورة إيديولوجية سويسرا. كيف؟ الكل سيغمّسون خبزهم في النهاية. ففي المساء يجتمع السويسريون حول طنجرة شوربة كابال، و«حتى لو كنا متصارعين، يجب أن نأكل معاً»، كما يقول كوشبان.
التعقيب الأول على مداخلة كوشبان كانت من داوود الصايغ، مستشار رئيس الحكومة سعد الحريري والأستاذ في القانون الدولي الذي رفض أن تقارن التجربة اللبنانية بتجارب أخرى. لماذا؟ «لأن ديموقراطيتنا خاصة ونابعة من طبيعة تكويننا البشري (!!)، لذا ليس للأحزاب السياسية ذلك الدور الأساسي في الحياة العامة» كما قال. وفي معرض دفاعه عن الطائفية «التي يطالب البعض اليوم بإلغاء الجانب السياسي منها»، يستعيد الصايغ مقولة ميشال شيحا «الطائفية هي التي علّمت لبنان الاعتدال، رغم العديد من الأخطاء والتجاوزات».
الرد على الصايغ جاء من النائب ياسين جابر الذي ذكّر بالمبادرة التي طرحها الرئيس نبيه بري لتأليف هيئة تبحث في آلية إلغاء الطائفية السياسية، لافتاً إلى أن الأمر لن يحدث غداً، فالتجربة السويسرية احتاجت إلى عقود من التغيير. ونوه جابر بالنظام الانتخابي النسبي في سويسرا، آملاً إقرار هذا النظام في لبنان في الانتخابات النيابية المقبلة عام ٢٠١٣.
ولمن لا يعرف، فقد شهدت سويسرا حرباً أهلية عام 1841 «تمخض عنها دستور جديد وضع الأساس لتلافي الوقوع في حروب مدمرة أخرى»، كما قالت الباحثة في جامعة فريبورغ إيرين هيرمان في مداخلتها المعنونة «تاريخ حل النزاعات في سويسرا في القرن التاسع عشر». لكننا حين نقارن بين المآل السويسري والمآل اللبناني، نرى أنه «بين انتهاء حرب لبنانية وبدء أخرى يترسخ النظام الطائفي». الكلام للمؤرخ مسعود ضاهر الذي عقّب على ورقة هيرمان، مستعيداً التجربة اللبنانية في الفترة نفسها. ضاهر استعاد تجربة الأمير بشير الشهابي التي تميزت بالبطش والعنف، وهما ميزتان أساسيتان في النظام السياسي اللبناني. فلبنان برأي ضاهر ليس وريث نظام ديموقراطي، بل قمعي، فإضعاف النظام المقاطعجي كان المدخل إلى صعود النظام الطائفي بالتحالف بين الأعيان ورجال الدين. ودعا ضاهر إلى استعادة التجربة الفكرية للمؤرخ إيليا حريق الذي درس تلك المرحلة. ورأى أن الزعيم المقاطعجي المحلي ليس موظفاً عند الزعيم الخارجي، بل هو تماماً كما زعيم اليوم يبحث عن دور. فالأخير لا يقبل باستقرار النظام إلا إذا ضمن مصالحه الشخصية. ضاهر رأى أن التجربة اللبنانية هي وليدة التجربة الطائفية التي تتأرجح بين الطائفية المستقرة والمتفجرة والمدمرة، وبالتالي فإن صيغة الحكم الحالي تقوم على فكرة الحفاظ على الطابع المستقر للنظام الطائفي. لكن الحل ليس باستنساخ التجربة السويسرية بقدرة البحث ضمن إمكاناتنا على الحفاظ على صيغة العيش المشترك التي تؤدي فيها البورجوازية اللبنانية دوراً مهماً. وللمفارقة، فإن هذه البورجوازية هي ريعية تقوم على الخدمات والمضاربات العقارية، فيما المطلوب هو أن تقتدي بالبورجوازية السويسرية المنتجة التي مثّلت نموذجاً اقتصادياً مبنياً على الإنتاج.
الزميل جان عزيز رأى في تعقيبه على مداخلة هيرمان أن الحل في لبنان ليس في البحث عن ديموقراطية توافقية، بل عن معادلة ثلاثية الأبعاد تقوم على بناء نظام معاصر في سوريا ونظام سيادة واستقلال في فلسطين، وحينها يمكن الحديث عن نظام مستقر ومتطور في لبنان. وأضاف عزيز: «التعددية في لبنان جوهرها (المقدس) بالمفهوم الأنتروبولوجي للمصطلح، وهذا المقدس نعممه في حياتنا العامة، لذلك لا يحتجّ سائق التاكسي السُّني على غلاء البنزين، ولا يحتجّ التاجر الشيعي على ضرب المفهوم اللبناني للسياحة في بعلبك. أما العامل المسيحي فلا يسأل عن غياب الديموقراطية في الاتحاد العمالي كي لا يبدل رئيسه المسيحي». ولفت عزيز إلى أن الحل هو بعلاج الأزمات بالحد الأدنى من العنف بانتظار حل أزمة المقدس مع الديموقراطية.


كوشبان والمآذن

في حديث جانبي خاص لـ«الأخبار»، أكد الرئيس السابق للاتحاد السويسري فرنسوا كوشبان أن الاستفتاء الذي أدى إلى الحظر السويسري على بناء المآذن، كان تنبيهاً شديد الحساسية من الشعب السويسري لأكثر من سبعة ملايين مسلم يعيشون في سويسرا بشأن ضرورة الاندماج. فالناس يخافون من أن يعيد التاريخ نفسه، وخصوصاً أن مرحلة الصراع الديني حاضرة في الأذهان. يوافق كوشبان على أن الرأي العام المسلم حول العالم يصور المسألة بأنها إسلاموفوبيا، لكنه يرى أن الكاثوليك في سويسرا مروا بتجربة مماثلة في السابق، ولا بد للمسار التاريخي من أن يفضي في النهاية إلى قبول المجتمع لما يعدّه اليوم انتهاكاً من جانب الإسلام السياسي للنموذج الحضاري السويسري.