بدأ التحضير لبناء مجلس الإنماء والإعمار سدّاً في منطقة مرج بسري بكلفة 500 مليون دولار أميركي. والهدف من بنائه توفير مياه الشفة لمنطقة بيروت وضواحيها، بنتيجته ستغطي مياه البحيرة الاصطناعية رقعة واسعة من الأراضي، مدمرة بذلك مواقع أثرية مهمّة وشبه مجهولة حتى الآن
وسام خليل
مشروع بناء سدٍّ في منطقة مرج بسري وإن بإمكانه تأمين مياه الشفة لبيروت هو كارثة كبيرة متعدّدة البعد على لبنان. فهناك الجانب المالي للمشروع ذي التكاليف العالية، وخصوصاً أن هناك مشروعاً بديلاً بكلفة أقل، وهو سد الدامور؛ وهناك أيضاً جانب أمان السد الذي سيبنى بجانب فالق زلزالي غير خامد وهو فالق روم؛ ثم هناك الشق التاريخي والأثري للمشروع الذي سيدمر موقعاً أثرياً كبيراً. فمرج بسري يحوي عدداً من المواقع والأوابد الأثرية أهمها هيكل بسري الروماني وجسر حجري من الفترة العثمانية.
يقع المعبد الروماني بالقرب من نقطة التقاء نهري عاراي والباروك اللذين يكوّنان معاً نهر بسري الذي نعرفه باسم نهر الأولي. إن وجود الهيكل في هذا المكان ليس صدفة، فاختياره أتى لأسباب دينية لها علاقة بالإله الذي كرّس الهيكل له. ويرجح أن يكون للإله أشمون الذي لديه معبد آخر على نهر الأولي قرب صيدا بين بلدتي علمان وبقسطا. كان أشمون إله الصحة والشفاء عند الفينيقيين وطقوسه مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمياه. وكان نهر الأولي يسمى في الفترة المتأغرقة والفترة الرومانية باسم نهر أشمون، وأحياناً باسم نهر بسري. لذلك، بنى الأقدمون في هذا المكان الذي يمكن اعتباره «منشأ» نهر أشمون هيكلاً لهذا الإله الذي ذاع صيته في أرجاء المتوسط.
«إختيار هذه المنطقة لبناء المعبد ليس بالصدفة، فنرجح أن يكون للاله أشمون
من مبعد بسري الروماني لم يبق ظاهراً اليوم إلا أعمدة الواجهة الأربعة وهي منحوتة في الغرانيت الرمادي اللون وترتفع أكثر من ثلاثة أمتار فوق مستوى طمي النهر الذي يغطي أرضية المعبد الذي كان بعرض أربعة عشر متراً، ولا نزال نجد في مجرى نهر البسري أجزاءً من جدار باحة المعبد الروماني وبقايا أعمدة وحجارة كبيرة منحوتة. بناء المعبد في هذه المنطقة يرجح وجود منشآت دينية أخرى تابعة له، قريبة منه وبالطبع لا تزال دفينة في الأرض. هنا، تجدر الإشارة إلى أن عملية طمر هذه المنشآت وأعمدة الهيكل وجدرانه ليست بفعل الزمن وحده، ولكنها شاهد حي على تحرك فالق روم الزلزالي. فالهزات الأرضية وحركة الطبقات الأرضية (التكتونية) أدت إلى انهيارات صخرية كبيرة نجم عنها انسداد نسبي في مجرى نهر بسري، الذي غيّر مجراه في السهل وبدأت عملية تراكم الطمي على الآثار.
آثار الفترة الرومانية ليست الوحيدة الظاهرة في الموقع. هناك أيضاً بقايا غرف كبيرة معقودة السقوف انهار قسم منها، على الأرجح بفعل الارتجاجات الأرضية أيضاً، وجرف النهر قسماً آخر منها. صحيح أن جهة استعمال هذه القاعات ما زالت مجهولة، إلا أن وجودها على مجرى النهر وضخامة بنائها دفعا المؤرخ والرحالة ابن سباط إلى ذكرها أثناء وصفه المنطقة في كتابه الذي يعود إلى نهاية القرن الخامس عشر.
وخلال فترة حكم السلطنة العثمانية بُني جسر حجري على نهر عاراي بالقرب من الهيكل الروماني. وأتى بناء هذا الجسر كجزء من شبكة الطرق التي عملت عليها السلطنة لوصل مدينة صيدا بمنطقة جزين، والتي لا يزال حتى اليوم قسم منها ظاهراً للعيان في منطقة مرج بسري. ولكن الجسر الحجري لم يصمد بوجه تحركات الفالق الزلزالي، فانهار هو أيضاً. وأعادت السلطات العثمانية بناءه مستخدمة الأساسات ذاتها.
هذه المعالم الأثرية النادرة والمهمة، التي قد تنير دراستها جزءاً من تاريخ المنطقة وحضارتها، معرّضة للاختفاء والدمار بسبب مشروع السد، وهناك أعداد هائلة من الحيوانات ومواطنها مهددة بسبب هذا المشروع، ناهيك عن الأراضي الزراعية التي ستبتلعها المياه. فمرج بسري مكوّن من سويات جيولوجية هي عبارة عن تراكم الأتربة والرسوبات المتأتّية من سيول مجرى النهر التي جعلت الأرض خصبة إلى درجة عالية وغير معروفة في تلك المنطقة. وما يثير مخاوفنا أكثر هو أن تكون عمليّة البناء ووزن المياه المتراكمة سبباً في تحرك الفالق الزلزالي الذي أظهرت الدراسات الحديثة أنه يمر بالقرب من بيروت.