كامل جابر
«كان همي في المسرح أن أبحث عن كرامة الإنسان وحريته (...) لا أعرف إذا كنت قد وُفِّقتُ فعلاً في نشاطي المسرحي بين التأليف والتمثيل والإخراج والاقتباس والإنتاج، لكنني واثق من أنني كنت على الأقل ممثّلاً أعطى كل ما عنده، حتى أعطيت قلبي مفتوحاً لكم جميعاً». بهذه العبارات خاطب منير كسرواني المشاركين في اللقاء الذي أقامه أخيراً «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» تكريماً لرحلة استمرّت خمسين عاماً على خشبة المسرح.
حين وجد منير كسرواني نفسه حائراً بين المسرح التجريبي الذي مثّل إطلالته الأولى، والتكرار وغياب النص المسرحي، استجمع ذاكرته المفعمة بتجارب مختلفة ولهجته الجنوبية المحببة، ونقلها من خلال شخصية «اسماعين»، المواطن الفقير الذي ما فتئت إسرائيل تهدم بيته وتشرِّد عياله: «بدأت أفكر في مسرح يجمع الطرفين معاً، أي العنصر التجريبي والعنصر الذاتي القائم على إحساسي الطفولي بالناس والأشياء، مستحضراً وحشيتي وفطرتي وبراءتي الأولى، وإحساسي بهمّ الناس».
في عام 1947، ولد منير كسرواني في قرية «العيشية» القريبة من النبطية (جنوب لبنان)، وذاق قساوة الحياة. كان عليه مثل إخوته أن ينهض في منتصف الليل ويذهب إلى الحقل لقطاف أوراق التبغ: «أكثر ما كان يؤثر فيّ أنّني لم أعش طفولتي كما أردت، حتى أنّنا كنّا نغيب أحياناً عن المدرسة كي نعمل في الحقل». منذ نعومة أظفاره، تأثر بحياة الفلاحين، وتعرّف إلى عادات النَّوَر الذين كانوا يحطّون رحالهم قرب الضيعة. هكذا تعلّم العزف على الناي والربابة، وحفظ أغاني النَوَر، كما تعلَّم من والدته الحداء وأبيات البكاء على الموتى.
مدرسته الأولى كانت في الضيعة «التي أملك فيها ذكريات أليمة، حيث كان الضرب والقمع. لذلك، كنت أهرب من المدرسة وأشعر كأنّها السجن». أما سنة الشهادة المتوسطة، فكانت السنة التي أخرجته من القرية، إلى مدينة النبطية «هناك، تعلمت أشياء كثيرة وشاركت للمرة الأولى في التظاهرات».
في 1967، قرر أن يعيش تجربة الرهبنة: «تركتُ العيشية هرباً من الحياة وقسوة والدي، ولجأت إلى الدير كي أترهّب». دخل دير سيدة المعونات في جبيل. وهناك، بدأ يلعب أدواراً ناجحة على المسرح. في الدير، اختاره الأب يوسف مونس ليمثل دور جندي تركي في مسرحية «قاطع طريق» التي أعدت لتلفزيون لبنان عام 1969.
عاد من الدير إلى النبطية. هناك، انخرط في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بعدما استهواه الفكر الاشتراكي، لكنّه لم يستمر أكثر من سنة: «كنت قد بدأت أتحضر لأصبح ذاك الإنسان الرافض للمارونية السياسية. بدأت أفقه معنى الثورة، ومعنى القضية الفلسطينية. وفي الضيعة، سمّوني منير اليساري».
مطلع السبعينيات، انتقل إلى بيروت، ودخل كلية التربية. حصل في عام 1975 على إجازة في اللغة العربية وآدابها، ثم التحق بـ«معهد الفنون الجميلة» التابع للجامعة اللبنانيّة أيضاً، وتخرّج عام 1979 بدبلوم دراسات عليا في المسرح. في معهد الفنون، درس على يد ريمون جبارة، وموريس معلوف، وأنطوان ملتقى، وأنطوان كرباج، وشكيب خوري، وجورجيت جبارة وغيرهم. وبدأ أساتذته يختارونه بطلاً لأعمالهم المسرحية، علماً بأنّه كان ممنوعاً إشراك تلميذ من قسم التمثيل في السنة الأولى بالأعمال المحترفة خارج المعهد. «أتذكر أنني يوم تقدمت إلى المعهد، رفضوا أن أجري الاختبار. قالوا لي: لا يحق لك أن تقدّم الفحص، لأنك لا تحمل نصاً عالمياً، فقلت: أعطوني نصاً الآن. صاروا يضحكون وطلبوا من شكيب خوري أن يعطيني نصاً، فطلب مني أن أجسّد دور الحارس الذي كان مولجاً بحراسة الجثة في مسرحية «أنتيغونا». انتظرتُ كي يقدّم رفاقي نصوصهم. وفي ذلك الوقت، حفظتُ الدور، ثم قدّمته في النهاية. كان عندي ثقة بنفسي، أردتُ أن أكون ممثلاً. هكذا، تقدّمت كقنبلة موقوتة وكلني عاطفة وإحساس. وبعدما أدّيت الدور أمام اللجنة، قال شكيب خوري: هذا سيكون أفضل تلميذ عندنا خلال أربع سنوات».
العمل الأول له حين كان في كليّة التربية، أي قبل «معهد الفنون» بسنوات، كان «الزنانير الجلدية» للأب يوسف مونس عام 1973، ثم «لعبة السماسرة» أو «عالحبلين» لموريس معلوف عام 1974. ومنذ ذاك الحين، لم يتوقّف عن المسرح، وولج عالم السينما والتلفزيون، فضلاً عن البرامج الإذاعية المتنوعة، ومنها برنامج «الحكواتي» الذي قدّمه من «إذاعة البشائر» (2008). يقول: «العمل المسرحي المميز الذي أعطاني دفعاً مهماً في حياتي كان «هوذا الإنسان» (1975) لأندريه شاهين، من إخراج يوسف مونس. مثّلتُ دور يهودي اسمه حنانيا، وكان معنا غسان مطر وإيلي صنيفر وفيليب عقيقي وغيرهم».
في عام 1980، شارك مع الرحابنة في «المؤامرة مستمرة» على مسرح «كازينو لبنان»، ثم في مسرحية «الشخص» التي عرضت في الأردن. ومع زياد الرحباني، مثّل دور زكريا في مسرحية «بالنسبة لبكرا شو». لكنّ عام 1989 كان نقطة التحول الأولى في حياة منير كسرواني نحو الفنان الذي يكتب ويخرج يمثِّل ويؤسس للمسرح الشعبي الذي بدأ على مسارح معروفة ثم على مسارح متنقلة بين المدن والقرى اللبنانية. هكذا كانت مسرحية «اسماعين بالطائف» التي قدّمت في باريس، تلتها «وزارة للهوارة» (1993). يقول: «الشخصية التي لبستني أكثر هي شخصية اسماعين، لأنني اتخذتُ فيها الطابع الجنوبي: أبي كان يلبس الشروال فاستعدت تلك الذكريات والحالات. نقلتُ جو الضيعة إلى المسرح وغنيت أغاني النّوَر». وحين نصل إلى مسألة حسّاسة، يفتي فيها على طريقته: «لا أحد يعطيك نصاً. أين النصوص المسرحيّة؟ المسرحي في لبنان يجد نفسه مضطراً إلى الكتابة لنفسه. قلت لنفسي: يا صبي هذا مجالك واختصاصك، وتعرف النقد وجوهر الشعر والنثر. فماذا تنتظر؟ هكذا شمّرت عن زنديّ، ورحت أكتب. الكتابة تجعلك تلمس جوهر الإنسان. صرت أتعلم من أخطائي. أنا في النهاية ابن الحياة، لقد تعلمت منها كلّ شيء!».


5 تواريخ


1947
الولادة في العيشية (جنوب لبنان)

1979
دبلوم الدراسات العليا
في المسرح من «معهد الفنون الجميلة»
في الجامعة اللبنانية

1973
مثل في «الزنانير الجلدية» للأب يوسف مونس، ثم لعب دور البطولة في «عالحبلين» لموريس معلوف عن نص لموليير

1989
مسرحية «اسماعين بالطائف»
من تأليفه وإخراجه

2010
عُرضت أخيراً مسرحيته الجديدة «ابن الوطن» في بلدة سحمر البقاعية. ويحضّر حالياً لدكتوراه عن «الكوميديا في المسرح الحديث في لبنان»