باريس ــ عمر نشّابةيبدو أن الانتخابات في بيروت خصوصاً، ساهمت في تدمير ما بقي من «الجمهورية»، ليس عبر التصويت لمرشحين معينين أو بسبب نسبة الاقتراع المتدنّية، بل بفضل قصور المسؤولية الديموقراطية للناخبين والمرشحين ومن خلفهم. ومن الصعب فصل ذلك عن تداعيات تعطيل الإصلاحات التي كان يفترض إدخالها على القانون عبر اعتماد النسبية. لكن إذا أردنا التعمّق في دراسة الخلل الديموقراطي، فلا بدّ من مراجعة الأسس التي تُبنى عليها «الجمهورية».
علّقت بلدية باريس مئات اللوحات في شوارعها تذكّر بمقاومين استشهدوا دفاعاً عن مدينتهم. فهنا، سقط شاب مجهول نصب كميناً لدورية ألمانية. وهناك، استشهد آخرون في مواجهة بطولية بوجه أكبر قوّة عسكرية آنذاك. استدعت تلك اللوحات أمس انتباه زوار المدينة بعدما زيّنتها البلدية بالورود في الذكرى الـ56 لاندحار الغزاة. وبذلك كرّست المدينة عبر بلديتها وفاءها للمقاومة التي حافظت على كرامتها بوجه الاحتلال و«الأكثرية البيتانية». فالأكثرية الفرنسية فضّلت يومها «حبّ الحياة» راكعة على دفع ثمن الكرامة.
لكن النهج المقاوم يذهب أبعد من الرمزية الرومنسية إلى حدّ صناعة الجمهورية على أسس راسخة بوطنيتها وولائها لكرامة أبنائها. إذ لم تكتفِ المقاومة بافتخار شعبها بالتحرّر، بل أرادت خدمة المواطنين، فبنت قيادات المقاومة الفرنسية المؤسسات ووجّهتها نحو التطوّر، وعمّمت فيها الروح النضالية. ومن خلال نظام المساءلة والمحاسبة، وتكريس السلطة لمُثُل المقاومة الشعبية العليا، وسط صرخات النشيد الوطني الداعي إلى التمسّك بسلاح المواطنين، انطلق مشروع بناء الجمهورية الفرنسية الحديثة.
أما في لبنان، فلا عجب من فشل بناء الجمهورية منذ تحرير العاصمة عام 1982. فبدل أن يمسك المقاومون بزمام الأمور، تولّت «لعبة الأمم» إدارة البلاد. وفي مطلع التسعينيات أدخلت بدعة بناء الدولة بواسطة رأسمالية استقدمت من مملكة أقلّ ما يقال فيها إنها لا تعير القيم الديموقراطية أي اعتبار. ونجحت حكومات ما بعد الطائف بإعادة بناء المطار والطرق والسرايا، وإعادة هيكلة بعض المؤسسات ومكننتها، لكنها فشلت في إطلاق الجمهورية بسبب غياب المرجعية الوطنية الجامعة التي لا يمكن أن تقتصر على المال والعصبية الطائفية.
وفي 2005 انطلق كرنفال «ثورة الأرز» بمشاركة جمهور فشل في تأسيس «جمهورية»، لأنه لم ينطلق من مقاومة حقيقية. والدليل على ذلك عدم ثبات تحديد «العدو». فبعد اتهام قيادات «ثورة الأرز» إحدى الدول بالاحتلال والاغتيال والإرهاب، تراجعت فجأة عن كلّ ذلك وثبّتت انخراطها في «لعبة الأمم». وبذلك تجنّت قيادات 14 آذار على الشعارات التي رفعتها. لكن ذلك لم يؤدِّ إلى سقوط جمهورية بيروت البلدية بقدر ما أدى إقبال الناخبين إلى الالتزام بالتصويت لمن انقلب على نفسه منذ 2005.
انتُخب مجلس بلدي في بيروت مماثل للمجلس السابق، وبالتالي فلينتظر أبناء بيروت استمرار الأداء نفسه. وإذا كانت الحجج السياسية أو المذهبية هي التي دفعت الناخبين إلى الاقتراع لـ«المستقبل»، فليعلموا أنهم سيدفعون ثمن خيارهم الديموقراطي عبر تمديد معاناتهم من سوء الخدمات البلدية والفساد المستشري فيها. أما حجّة غياب البديل فلا قيمة لها، إذ لم يُفتح باب الترشيح للحزبيين والمسيّسين وحدهم.
لوحة يتيمة في شارع الحمرا رفعها رفاق خالد علوان (تأريخاً لعملية قام بها في 24 أيلول 1982) تدلّ على لوحات مفقودة في عائشة بكار والمصيطبة والرملة البيضاء وفردان. لوحات تؤسّس لجمهورية بلدية بيروت المفقودة.