تقع بحيرة الكواشرة على الطريق الدولية التي تربط عكار بالهرمل. وهي على ضخامة مساحتها أشبه بواحة في صحراء قاحلة، إذ لم تحصل على التفاتة جدية إلا منذ عقود غابرة، ضمن مشروع الليطاني عندما نشأت محاولة تنموية من جانب الدولة
عكار ــ روبير عبد الله
لا يقصد الزوار بحيرة بنشعي على الطريق الدولية التي تربط عكار بالهرمل بسبب اتساع مساحتها، ولا بسبب قربها من المناطق الآهلة بالسكان، بل لأن المشاريع التي أنشئت عليها وحولها جعلتها قبلة تجذب الناس إليها من مسافات بعيدة. وهناك يجد الكبار مكاناً هادئاً ومنظراً جميلاً، والصغار يجدون مجالاً للتنزه واللعب والتسلية.
أما بحيرة الكواشرة في عكار التي تكبر نظيرتها في زغرتا أضعافاً عدة، فتمتد أمام العابرين صدفة، مئات الأمتار على جانب الطريق مباشرة، وتكاد تناديهم بأنّ «التفتوا إليّ قليلاً، خذوا مني ما يروي بساتينكم، وبأكلاف قليلة هي جاهزة للاستثمار سياحة وثروة سمكية». لكنها تبقى يتيمة من دون مجيب، ما خلا فلاحاً يرعى بقراته أو عابر سبيل يعرف في خفايا الأمور، فيأسف لأنّه يدرك معنى الإنماء المتوازن، ويدرك الفرق مثلاً بين زغرتا التي تحظى بمن يرعاها ويهتم بشؤونها، فيعمّر فيها إهدن لتصبح عروس المصايف، ويقيم المنتجعات على ضفاف رشعين، ويلتفت إلى بحيرة صغيرة فيجعلها عظيمة في منافعها، كبيرة في عيون أبناء منطقتها. ليس المطلوب بالنسبة إلى بحيرة الكواشرة تصنيفها فهي مصنفة أصلاً ضمن مشروع الليطاني، لكن لم يبق من المشروع إلا غرفة تحتوي على تجهيزات قديمة أكلها الصدأ، وبقية سواقٍ كانت تنقل المياه من البحيرة لتروي الحقول والبساتين في الكواشرة، ثم أتلفها الإهمال، فصارت نهباً للعابثين، وأشلاءً تذكّر بزمن مضى، يوم حاولت السلطة أن تبني دولة للمواطنين، ثم اكتفت بتركهم أتباعاً ورعايا.
ومع ذلك، رمى بعض الأشخاص أنواعاً معينة من الأسماك في البحيرة، ما لبثت أن كبرت وتكاثرت. وبمرور الوقت صارت البحيرة تحوي ثروة سمكية كبيرة، جعلت الصيادين يأتون إليها من مناطق بعيدة في عكار. لكن مياه البحيرة تلوثت في عام 2004، ما أدى إلى نفوق كميات كبيرة من الأسماك.
وبعدما أجرت بلدية الكواشرة اتصالاتها بالمراجع المختصة، عمدت الجرافات إلى تجميع الأتربة التي أوصلتها السيول إلى البحيرة على مر السنين. هذه الأتربة مع اشتداد كثافتها، تمثل عائقاً أمام تكاثر الأسماك، كما تصبح مصدر خطر يتعرض له هواة السباحة في البحيرة، عندما تتحول تلك الأتربة إلى طبقة من المواد اللزجة التي يَعلق فيها من يدوسها، فتعوق إمكان خروجه من تحت الماء. ولهذا السبب حدثت حالات غرق متعددة في البحيرة، راحت ضحيتها فتاة من بلدة الكواشرة وصياد من قرية السنديانة المجاورة.
وقبل أن تنجز الورشة عملها في تنظيف البحيرة، غادرتها الجرافات مكتفية بتجميع أكوام من التراب في مساحات متفرقة من البحيرة. مع العلم أن الأتربة المجمعة شديدة الخصوبة، ما دفع المزارعين إلى التسابق على أخذها بطريقة عشوائية. من هنا يتساءل صيادو السمك عن مبرر إنفاق مئات الملايين بحجة إصلاحها.
بلدية الكواشرة مشغولة بنزاع حول ملكية العقارات المحيطة بالبحيرة، وهي تقع على الخط الفاصل بين خراجي البيرة والكواشرة. وفيما تشير مصادر دائرة الأوقاف إلى أنّ النزاع أفضى إلى حكم قضائي بتمليك الأوقاف عدداً من تلك العقارات، تقول بلدية الكواشرة إنّ لديها مستندات ووثائق، تسبق عملية التمليك وإنّ مختار البلدة السابق وهو متوفّى، وقّع تنازلاً عن تلك العقارات ووثائق أخرى تتعلق بمشاريع كان يفترض إقامتها في تلك العقارات، لكن المختار لم يكن يعلم أن تلك التواقيع ستؤدي إلى نزع ملكية تلك الأراضي من بلدة الكواشرة وجعلها ملكاً للأوقاف.
أما الشيخ محمد عوض، إمام مسجد البيرة، فيكتفي باعتبار العقارات المشار إليها ملكاً للأوقاف الإسلامية وفق حكم قضائي واضح، وهي بنظره ليست محل نزاع. ويؤكد عوض أنّ الأوقاف لا تعارض إنشاء مشاريع تنموية حول البحيرة سواء أكانت زراعية أم سياحية، وهنا يشير إلى قطعة أرض تملكها دائرة الأوقاف ويمكن الاستفادة منها على الجانب الآخر من الطريق ويستخدمها أبناء المنطقة ملعباً لكرة القدم. أما رئيس بلدية البيرة محمد وهبي فلا يخفي انزعاجه من الإهمال اللاحق بالبحيرة. لكنه لا يستطرد كثيراً في الموضوع لأن التباساً تاريخياً نشأ، كما يقول، بشأن تبعية البحيرة بين خراج البيرة وخراج الكواشرة. فهو يفضل عدم إثارة الموضوع كي لا يكون موضع نزاع بين أهالي البيرة وجيرانهم في الكواشرة. علماً بأن هيثم خضر، أحد أبناء الكواشرة، يتذكر أنّه منذ نحو عقد من الزمن حصلت مواجهة بين أهالي البيرة وأهالي الكواشرة. خضر الذي يملك محل سمانة يتمنى إجراء تحسينات في البحيرة وتشييد منشآت سياحية حولها، بالنظر إلى مردودها، فهو يقول إن البحيرة مقصودة على الرغم من عدم توافر البنى التحتية، وهذا ما يزيد من نسبة المبيع في محله، على حد قوله. يضيف أنّ شخصاً من بلدة القبيات كان بصدد إنشاء «مدينة ملاه» ثم تراجع عن الفكرة، بسبب عدم حسم مسألة القيّمين على البحيرة بين بلدتي البيرة والكواشرة ودائرة الأوقاف الإسلامية في عكار.
لا تحتاج بحيرة الكواشرة إلى عناء كبير لإدراك فوائدها التنموية، كل القرى والبلدات التي تجاورها تعاني الجفاف طوال فصل الصيف، الحقول والسهول على جوانبها، تفتقد قطرة ماء تروي ما يزرع فيها. الشباب والأولاد يأتون للّعب بقربها على الرغم من الوحل والأشواك، لكن أحداً من أصحاب القرار لا يعنيه العمل لتغيير واقع الحال وتحسينه. فيبدو أن الكواشرة وبحيرتها هي غير بنشعي وبحيرتها، لأن عكار بالجملة هي غير سائر المناطق اللبنانية.


عدوى العمل

بعدما نام في الأدراج مشروع طريق منجز العبودية التي بوشر العمل بها في ستينيات القرن الماضي، عاد المشروع وأبصر النور منذ أشهر، إثر متابعات مضنية قام بها أبناء البلدات المنتشرة على طول تلك الطريق، فبدا حلماً يتحقق، إذ رأى الناس الجرافات تشق البساتين تمهيداً لإنجاز المشروع. والطريق تلك لا تبعد عن الكواشرة إلا بضع مئات من الأمتار. لعلّ قرب المسافة بين الكواشرة وطريق منجز العبودية يوفر مجالاً للمقارنة، فتثور همة المعنيين لتجسّد طموحات أهالي البلدات والقرى المحيطة بالبحيرة على أرض الواقع.