أنسي الحاجالثوب يصنع الكاهن
كان الآشوريون، إذا أرادوا تعيين الجهات، التفتوا إلى مشرق الشمس، فسمّوا الشرق «أمام» والغرب «وراء». وكانوا يسمّون جبال لبنان «مات أحاري»، أي «الأرض التي إلى الوراء»، ويقصدون البلاد الغربيّة. (كما نقل السفير الباحث المرحوم عبد الله النجار عن المؤرخ فيكورو، وقد أوردها في مقدمته لكتاب شفيق سليمان «بيروت العتيقة» (بيت مري) في التاريخ» الصادر عن دار الحضارة الجديدة في طبعته الثانية عام 2009). وعن تسمية فينيقيا يقول إن أصل الكلمة «فونيقى»، ويرجّح نظريّة ماسبيرو القائلة إن الاسم أُخذَ من لفظة «فون» التي «عبّرت بها الآثار المصريّة عن بلاد العرب الشرقيّة وشاطئها الشرقي (الخليج العربي) الذي جاء منه الكنعانيون، فصحبهم الاسم إلى سوريا. وفينيقيّو سوريا أوصلوه إلى أفريقيا»، استناداً إلى ما يقوله المطران يوسف الدبس في كتابه «تاريخ سوريا». وممّا يستوقف قول النجار إن الفينيقيين «لم يكن من عاداتهم إقامة الأصنام في هياكلهم، بل أقاموها في بيوتهم». إلامَ هذا؟ يُستبعد أن يكون البخل، فقد كانوا يغطّون عيني الميت بغشاءٍ من ذهب، «أمّا الأغنياء فكانوا يلفّون جثثهم كلّها بغشاءٍ من ذهب، ويرسمون عليها سمات الوجه، ويضعون في القبور كثيراً من الحليّ الرائعة الصنع».
إذاً، لمَ الأصنام في البيوت؟ هل لشخصنة العبادة بأقصى ما يمكن من الحميميّة؟
يعلّق المسيحيّون، ولا سيما منهم الكاثوليك، صور المسيح والعذراء والقدّيسين في بيوتهم ويضيئون لها الشموع وأحياناً يرفعون لها الصلوات، وقد يدخلون إلى منازلهم تماثيل صغيرة، ولكن أحداً لم يصل إلى حدّ إقامة النُصُب الضخمة. حتى الكنائس باتت تستعيض بالصورة المعتدلة الحجم عن تلك الشاسعة المهيبة، وتترك في السقف وعلى الحيطان مساحات كبيرة فارغة.
أنا مع الصورة. ومع القدّاس السرياني. ومع الألحان القديمة. ومع خوري الضيعة العتيق. ومع الأثواب القديمة للرهبان والراهبات. أنا مع القول إن الثوب يصنع الكاهن. والثوب يصنع الجندي. والثوب يصنع الممرّضة. إن أسوأ ما حلّ بالكنيسة هو التجريد وأظلم الكلام هو ذاك الذي يطعن على الجهات الطفوليّة في أيّ شيء كان. ولو لم يبقَ من المسيحيّة إلّا روائع فنّانيها التشكيليّين والمؤلّفين الموسيقيّين وتحليقات الجوقات الترنيميّة، فضلاً عن أدب الخطيئة والتوبة والندم والانتهاك، لكفاها خدمة للحضارة.
العلاقة بالغيب وسامٌ على عقل الإنسان. ليس عبر الإيمان والإلهام الروحاني فحسب ولا بالفلسفة والفنّ والصلاة فحسب بل حتّى بالرياضيّات والفيزياء. لعلّ إقامة الفينيقيين أصنامهم في بيوتهم إلحاحٌ على عدم مبارحة التماس بالغيب. وقد وضعوها بأحجامها الكبيرة ليظلّوا في مناخ الرهبة، وربّما لكي يأملوا في أن يستأنس الغيب بحياتهم اليوميّة و«يتوصّى» بهم عند الحاجة...
ملاحظة
أضعف ما نصاب به حين نعبّر هو الإمعان في الشرح، لأنّه يحرم القارئ فسحة التخيّل. هذه الفسحة هي الرئة المشتركة بين الكاتب والقارئ ـــــ رئة تتنفّس عند كلّ من الطرفين على هواها.
الأمر نفسه ينطبق على سائر الفنون، ولا سيّما الموسيقى. حقّ المتلقّي في ممارسة تخيّله وتسريح شعوره يضاهي حق المؤلّف ويفوقه. والمتلقّي المثالي هو الطاغية، أي ذلك الذي يعيد خلق الأثر.

عذاب وكفر
غالباً ما اعتمدتُ على واقعة عذاب لأحتجّ على اللّه. شأني شأن كثيرين غيري. ونحن ذرّة غبار قياساً بصرخات دوستيوفسكي وأصداء كامو مروراً بنيتشه، ويستمرّ الفلاسفة المعاصرون على النهج ذاته الذي قد يكون أبلغ تلخيص له عبارة الفيلسوف الفرنسي اندريه كونت ـــــ سبونفيل: «ما أغرب هذا الأب الذي يختبئ حين يتوجّع أبناؤه! لماذا نَقْبل منه بما لن نجرؤ على قبوله من أيّ أب آخر؟ (...) ما هذا الإله الذي يترك الغزلان فريسة للنَمِر والأطفال للسرطان؟».
أما الأدب العربي فحدوده حدود المسموح الديني والسائد الاجتماعي الموروث، إلّا ما نَدَر. فالله بالعربي هو اللّه الإسلام، وليس ثمة رَفْع كلْفة في هذا الموضوع، ويبقى التبّرم عمومياً غائماً واللوعة مكسورة، وإن تجاسر الكاتب فإمّا على الذات وما أهونها وإمّا على المؤسسات الزمنيّة ولو دفع ثمن غضبه مصادرة أو سجناً. اللّه بالعربي لا يُناقش. وحتى لو كان الكاتب العربي مسيحياً أو يهودياً فسيُحاسب، لو كَفَر، إسلاميّاً. وذات يوم رَفَعتْ ضدّي جماعة طرابلسيّة دعوى بتهمة المسّ بالعزّة الإلهيّة في أحد مقالاتي، ولما تذّرعت لدى مرجع قانوني بأنّي لستُ مسلماًَ كي يلاحقني مسلمون استخفّ بي ضاحكاً: «كلنا مؤمنون بإله واحد!».
لنعد إلى بناء الكفر على واقع الظلم، وأشدّه الظلم اللاحق بالضعفاء والأبرياء. إنّ أيّ نظرة باردة إلى هذه القضيّة تُرينا فيها نقطتي ضعف على الأقلّ: الأولى أنّ هذا المنطق هو أخو المنطق المقلوب الذي يبني على الظلم، الظلم العبثي خاصة، النظريّة القائلة إن خطايا البشر هي سبب هلاكهم ولا خلاص لهم إلا بالتوبة إلى الله، والثانية سذاجة هذا الكفر المنطلق من الخَلْط بين مسؤوليّة الخير ومسؤوليّة الشرّ، وتصوير اللّه آلة أحادّية السلطة. وفي هذا ما فيه من سطحيّة إنْ أحسنّا الظنّ ومن غوغائيّة إن لم نحسنه، وفي الحالين يُردُّ على الظلم ومعاناة الألم ردّاً محض ذهني، هنا ذهْن لاهوت الإيمان وهناك ذهْن لاهوت الكفر، وتظلّ المأساة مكانها.
ولكنْ ماذا نفعل؟ لا أدري. ربما ينبغي لنا البدء بالتخلّص من عادة تحميل المسؤوليّة لـ«الآخر»، حاضراً كان أو غائباً. أن نَقْبل فكرة وجودنا شبه وحيدين وأنّ الآخر موجود بنسبة ما نحبّ وجودَه وأن وجوده مؤازر لنا بقَدْر قدرته وأنّ قدرته جانب منها رهن بمدى تجاذبنا وإيّاه وجانب آخر، لعلّه الأكبر، ينتمي إلى العالم المجهول.
أنْ نَقْبَل فكرة وجودنا وحيدين، وأن تتعاظم بالتالي حاجتنا إلى الحبّ. الله؟ هو الزاد الذي يحمله الوحيد عند اشتداد الوحدة. الله حضور الدفء في الصقيع. الآخر، الجار البَشَريّ، هو رسول لذلك الحضور، وبنوعيّة حضوره يقاس العزاء في المحنة. قد يكون الإمساك بيد مريض أو الابتسام له أعظم علاج يتلقّاه.
كلّ مساعدة ضدّ الألم والرعب هي خطوة إلهية.
عندما نتقّبل فكرة شبه الوحدة ـــــ أو الوحدة المحاطة بما لا نَعقل ـــــ نشعر بحضور يَحمينا. أنحن من يخترعه أم هو حقيقي؟ لا فرق إطلاقاً. إن ما نخترعه هو أيضاً حقيقي. حين يَقْبل الإنسان فكرة انوجاده وحيداً أمام القَدَر تتفّتح فيه أكمام النجدة ويبدأ يكتشف أنه غير وحيد وثمة عنايات ترافقه.
ذلك هو القانون. اتركْ نفسك تنزل، ستعود وتصعد حين ترتطم قدمك بالقاع. عندئذ سترى كما كان الحقد مَضْيعة للوقت وكم كانت شهوة الثأر رخيصة.

لا بأس
... لكننا لسنا وحدنا. نحن جزء من الكون، من الأكوان، وحتّى ذاتنا العامة تذوب في ذات عامة أكبر تذوب بدورها في ذات لا نعرف عنها شيئاً. فكيف نقول إننا وحيدون في عالم نلتصق به كحبّات التراب، كالصخور والأشجار والينابيع، أو نتدّلى منه كالأغصان والثمار، أو نصول فيه ونجول كالنمل والنحل؟
إذا كنتَ لا تؤمن بهذا، فلا بأس، لأنه هو، هو «هذا» يؤمن بك، فليس لديه نقطة الضعف التي لديك، عقدة الغباء والغرور التي لديك. ثمّة هناك من يؤمن بك أيّاً يكن، بل ثمّة هناك أيضاً، أيها الفأر الذي يحسب نفسه في متاهة، ما يؤمن بك.


الذين تنسونهم

«يُعِيرنا الله مدى لحظةٍ الحقولَ والينابيع
الغابات الكبيرة المرتعشة، الصخور العميقة الصمّاء،
والسموات اللازورديّة والبحيرات والسهول،
كي نستودعها قلوبنا وأحلامنا وحكايات حبّنا،

ثم يأخذها منّا. يطفئ شعلتنا،
يُغرق في الليل العرينَ الذي كنّا نتوهّج فيه،
ويقول للوادي، حيث انطبعتْ روحنا،
أن يمحو أثرنا وينسى أسماءنا.

حسناً! أنسينا، أيّتها الظلال، أيّها المنزل، أيّتها الحديقة!
وأنتَ أيّها العشب، ابلِ عتبتنا! أيّها الشوك، غطِّ آثار أقدامنا!
غنّي يا عصافير! تَدَفّقي يا جداول! انمُ وتكاثرْ يا ورق الشجر!
الذين تنسونهم لن ينسوكم».
فكتور هوغو