أنسي الحاجاتخذ سعيد عقل خطة لنفسه أن لا يردّ على مهاجميه. وكانوا كثراً وأنا أحدهم. وانتهى الأمر ببعض مهاجميه، وأنا أحدهم، إلى امتداحه. أحياناً يتحوّل الصمود، مجرّد الصمود بصرف النظر عن مضمونه، إلى قيمة، وأحياناً بسبب ارتداد المهاجم «السابق»، أو هَرَمه، أو صحوةٍ ما. الصامد يتغلّب كما تتغلّب الصخرة على الموج، ولا يعني هذا أن الصخرة أفضل من الموج، يعني أكثر أن ما لا يتحرّك يمكن أن يوحي لما يتحرّك أن مصير الحركة التعب وكرْه الذات بسبب المداومة السيزيفيّة الفارغة، وأن الجمود أقوى وأكمل. وغالباً ما تجمع الصخرة بين الصمود ضد الموج والصمود من أجله.
في المهاجِم براءة، ولو كان حقيراً، براءة مَن يؤمن بأنه سيحقّق غاية، ولو حقيرة. الإقدام إقدام، للحيوان المفترس كما للعاشق المُحبّ. والترفُّع عن الردّ لا يُعْدَم براءة، براءة المؤمن بعدالةٍ ما، ولكنّه بالأكثر موقف حسابي، كأن تقول: لن أمنحه شرف الردّ. والواقع أن هذا كلّه عَبَث، ولا تتعدَّى مواقف الخصومة وحملات الذمّ أو الدسّ كونها حساسية شخصيّة مصدرها الغيرة والحسد أو ابتغاء النفع والابتزاز. فضلاً عن عقَد أخرى شديدة الذيوع في عوالم الكتابة والفن والسياسة والإعلام والشهرة عموماً، كالبارانويا والسكيزوفرينيا والميغالومانيا وقتل الأب، وقتل الأمّ أحياناً، وقَتْل كلّ مَن نُحبّه وكلّ مَن يحبّنا.
ليس لأحد أعصاب سعيد عقل أو نظرته إلى نفسه. ولا لأحد قدرة فيروز على الاحتمال والتزام الصمت. المَثَل الثاني خصوصاً، حيث بلغ الاحتمال منطقة المحال. ولكن الترفُّع ليس الدافع الوحيد للصمت. ثمّة أيضاً القرف، وهو أشدّ من الاحتقار، فضلاً عن كونه مانعاً لكثير من الأخطاء، كخطأ الارتباط، وإذا توسّعنا: كخطأ الحياة.
ذوو النفوس الطريّة يجب أن يعيشوا محصّنين من الكواسر كما يعيش بعض الموسرين في دورهم محصّنين بالستائر والتبطين ضدّ فجور النهار وجحيم الصخب. حبّذا. هو ضعف، وما البأس؟ هشاشة وخوف، بَشَرات مرتعشة، انجراحٌ من البشاعة، انرعابٌ من كلّ بشاعة، وهل نهرُ النهارات إلّا معرض الوحوش والفرائس؟
النفس الطريّة ـــــ وهي دوماً إمّا تقع في حبّ مَن لا يناسبها وإمّا في عشق حاسديها ـــــ النفس الطريّة عجينُها الخجل والعنف، الخجل من الحياة لأنّها عطاءٌ مسروق، والعنف الداخلي ضدّ الذات لأنّها عاجزة عن فَتْح المأزق. النفس الطَريّة لقيا للصيّادين، عاديّين ومنحرفين. إنّها الشرط الأكبر للفشل، للبقاء وحيداً وفقيراً، وغالباً ما ترى النفس الطريّة ملجأها وغناها في مواصلة نسج خيوط الحنين إلى عهدٍ قيل إن الإنسان كان يعيش فيه كالآلهة، «طليق الفؤادِ من كلّ هَمّ، بعيداً من العمل ومن الألم، ولا تزوره أبداً الشيخوخة الكئيبة»، كما يقول الشاعر الإغريقي هزيود (القرن الثامن قبل الميلاد) في كتابه «الأعمال والأيّام»، مضيفاً: «وكان الناس يموتون كما ينامون، وقد غلبهم النعاس». ولكن يجب أن لا نصدّق كثيراً، فهزيود كان شاعر الرعاة والسلام، بينما كان غريمه هوميروس شاعر الحرب والملوك. والأرجح أن هذا الشاعر الطيّب كان هو أيضاً من أصحاب النفوس الطريّة. عدا أن النفوس الطريّة بعد هزيود بنحو ثلاثة آلاف سنة تحلم بأكثر من هذا الفردوس، تحلم بأكثر من رخاء الديمومة في حاضر لا يتوقّف، تحلم بأكثر من هذا المستحيل: تحلم بأن تسترجع زمن صفاء سماء الرعاة وأرضهم وتحتفظ بمكتسبات الحضارة. تحلم بأن يترافق لديها الوعي والحماية، العالَمُ والأُمّ.
■ ■ ■
الناس يستهزئون بالرقّة لأنّهم يخافون أنفسهم. ولأنّ الرقّة، ما لم تتجلبب بالهيبات عند الرجل والبراقع عند المرأة، تظهر كرخاوة وميوعة وكرْماً بلا فَضْل في رزق بلا ناطور.
كلّما تَحسَّس الضعيف ضعفه تضاعف ادّعاؤه القوّة. ليس هناك أعلى من صياح الضعفاء، لا سيما الرجال من ناقصي الفحولة، وأبرزهم تاريخيّاً طائفة من الطغاة والغزاة، من يوليوس قيصر والإسكندر المقدوني إلى نابوليون وهتلر. لا نعرف شيئاً عن الحكّام العرب لهذه الناحية. لكنّنا على كل حال لا نعرف شيئاً عن حقائقهم ولا من ناحية، فهم مصفَّحون بغبائنا من جهة وبإرهابهم من جهة أخرى.
■ ■ ■
عبثاً تقول إن الشجاعة هي في الرحمة لا في البطش. جميع الذين قرأوا نيتشه يقهقهون لمشهد الانكسار، ويقهقهون لأن نيتشه دعا إلى الضحك برهاناً على الجبروت. لعلّ المعادلة الأكثر قابليّة للتصديق هي رحمة القوّة أو رقّة السلطان، وأختُها قهقهة السائر في الظلام. نحن هنا في صميم الديونيزيّة، نقيض وجه صموئيل بيكيت ورماديّة أشخاصه الداعية إلى الاختناق. ديونيزوس إله الخمرة والفرح محبوب الهاربين من وعيهم أي من الهاوية، ديونيزوس ليس «حديثاً» مثل أشخاص بيكيت وماكنات السينما الطليعيّة، بل هو حديث مثل أبي نواس والماركي دو ساد وبودلير ودوستيوفسكي ونيتشه، مجبول بالألم. ديونيزوس إله ترابي، غير معصوم كسائر الآلهة عن العذاب، وعندما يحلّ الشتاء ينقضّ صقيعه على ربّ الفرح بالحزن والموت. هوميروس، ممجّد الحرب والعَضَل والعرش، لم يعترف بألوهيّة ديونيزوس ولم يَقْبل به في الأولمب. فلقد كان هجيناً، أبوه إله الآلهة زوس وأمّه الأميرة سيميليه. وهو الإله الوحيد الذي ليس إلهيّ الأبوين. ولاقت أمّه مصيراً فاجعاً سبّبته غيرة إحدى الإلهات منها، فولد ديونيزوس من النار وربّاه المطر وأمضى شبابه متنزّهاً بين اليونان وفارس وأرض العرب، يلقّن الناس فنّ زراعة الكرمة وأسرار عبادته، فيما طباعه تتكشّف أكثر فأكثر عن عظمة مفطورة على الطيبة وسَخيّة بالرحمة. وكان يشتدّ حنينه إلى أمّه التي ماتت ولم يعرفها حتّى قرّر الهبوط إلى العالم الأسفل بحثاً عنها، فلما وجدها انتزعها عنوةً من حارس الموت، وحملها رأساً إلى الأولمب حيث رضخ الآلهة لقبولها بينهم رغم كونها من طينة البشر.
لكن عبادة ديونيزوس لم تقتصر على نشوة الحريّة وتَحرّر النشوة، بل مضت إلى ممارساتٍ متوحّشة عبر التلال والغابات حيث كان السكر يتعتع المتعبّدات لهذا الربّ حتّى الجموح الهستيري فيهجمن على الحيوانات التي يصادفنها في احتفالاتهنّ ويمزّقنها إرباً ويلتهمن لحومهنّ المدمّاة وهنّ يرقصن ويغنّين نشيد «الركض المجنون والسقوط إنهاكاً على الأرض، وفرحاً بهذا الدم المسفوك واللحم الأحمر النيء». إنه الخمر، صعوده وانهياره. إنّه القَدَر، خيره وشرّه. إنّها الحريّة، سَكْرَتُها وانتهاكها الحدود وضريبة انتهاكها. لكنّ أخطر ما في ديونيزوس أنه «الإله الجديد» الذي أشعَرَ الإنسان بأنه، عبر النشوة، يتماهى مع إله النشوة، ويكتشف أنه بدوره قادر على التألّه. هذا الوجه الأشدّ مأسويّةً بين آلهة الأساطير يتفرّد عن أقرانه أيضاً بكونه، إذ يموت بعد عذابٍ شديد في الشتاء مع تعرّي الكرمة من أوراقها، ينبعث إلى الحياة في الربيع غضّاً بهيّاً دون أيّ أثرٍ للموت عليه. ينبعث ومعه قدرةٌ عجيبة على جعل العالم ينسى مجدّداً فكرة الموت.
■ ■ ■
إلهٌ نصف بشريّ يعني إنساناً نصف إلهيّ. إلهٌ يستطيع أن يفرض أمّه البشريّة على مَجْمع الآلهة كواحدةٍ منهنّ، هو إله ينتقم من الآلهة. لكنّه ينتقم أيضاً من الإنسان فيعاقبه بإسقاطه من فَلَك النشوة إلى حضيض الجنون والوحشيّة. إلهٌ حنون وإنسانٌ ساديك. أو العكس. وهل من المحتّم أن يكون الساديك شخصاً آخر لتكون الضحيّة دوماً أنت؟ بل يمكن أن يكونا شخصاً واحداً كما أن اليوم هو نهار وليل. سقراط وضع الشريعة ومات بسببها. المسيح ابن الإنسان وابن الله، المصلوب والمنبعث من القبر. الفراعنة. الهنود والصينيّون. ما بين النهرين: لم يذهب أحد إلى أقصى القسوة إلّا عاد ولطّفها بما يشبه حكاية نوح. لكنّ اللعنة لا تزال أدهى بكثير من النعمة، ولم يذهب أحد بعد إلى أقصى الرأفة كاملةً غير منقوصة أو إلى أقصى القوّة كاملة غير منقوصة ويرجع بإكسير المعجزة الدائمة، حيث لا تقتصر «الخدمة» على التلطيف بل تمتدّ إلى الخلاص كما تخيّله الإنسان يوم حلم بالفردوس: دوام اللحظة الجيّاشة في ذاتها إلى ما لا نهاية.
على هذا الوعد تقيم البشريّة منذ انبثاقها. وعد «العهد الذهبي»، حيث ينصهر أفضل الإرث في أفضل الحلم، ويتلاشى النشاز أمام التناغم، ويعيش الإنسان (بل الكائنات كلّها، إن أردنا الحقّ) ملء اللحظات بلا تقطّع وبلا إرجاء إلى الأمام، فلا يعود الغد مستودع الوهم بل يغدو الحاضرُ بركان العيش المُسْكِر التأجّج.
... ولكنْ: مَن سيثق بالإنسان حدّ التسليم له بهذه السعادة؟ التاريخ يقول إن الإنسان عدوّ لأخيه وإن السلطة والتملُّك قاتِلا الجميع. ولو افترضنا أن هناك نهاية للسلطة والتملُّك بل نهاية للتاريخ نفسه، فإن مجرّد ضجر الإنسان من نفسه كفيلٌ بإغلاق أبوابه.
إذاً؟
مَن يرأف بهذا المخلوق دون تراجُع؟ دون أسف؟ حتّى أسفل الوادي وقمّة الجبل، وحتّى يعود له الموت كالرقاد تحت النعاس؟
متى سيدخل ابن الصلصال والبرونز والحديد، «العهد الذهبيّ» من سلسلة أَعماره؟
حين يكتمل حبّاً أم وحشيّة؟
مَن يُخرج من الإنسان هذا العدوّ الذي يفترسه؟


إلى قارئة

استوقفني تعليق قارئة على مواقف أخيرة لي. تضايقتْ من إعادتي النظر هنا وهناك. لا تُحبّ أن أتنكّر لماضيّ.
أيّتها السيّدة العزيزة، هل تعرفين ماضيّ؟