القضاء اللبناني قضى أخيراً بعدم تجريم سيدة لبنانية سافرت بأولادها الأربعة إلى الخارج، من «دون إذن الزوج». لاقى هذا الحكم ــ الاجتهاد ترحيباً وتأييداً من ناشطين في مجال حقوق الإنسان والمرأة
محمد نزال
عاد عدنان من عمله إلى المنزل عند الساعة الثالثة بعد الظهر، ففوجئ بعدم وجود زوجته سمر وأولادهما الأربعة. كان يفترض بسمر أن تذهب إلى المدرسة حيث يدرس الأولاد، وتعيدهم إلى المنزل، لكنها بدل ذلك، اصطحبتهم إلى المطار وسافرت بهم إلى أوستراليا. علم الزوج بالأمر، فحاول إقناعها بالعودة، مستعيناً ببعض أقاربها، لكن دون جدوى. بعد مرور يومين، رفع عدنان شكوى على زوجته أمام النيابة العامة، فعُمم بلاغ بحث وتحرٍّ بحقها.
تبيّن، بنتيجة التحقيق مع عدنان، أن زوجته تحمل الجنسية الأوسترالية، إضافة إلى الجنسية اللبنانية، وأنه كان يقيم معها ومع الأولاد في أوستراليا، قبل أن ينشأ خلاف بينه وبين أهلها على ملكية منزل هناك، فانتقل للإقامة في لبنان. وعن سبب ما قامت به زوجته، اكتفى عدنان بالقول: «إنها خلافات زوجية».
لم تحضر الزوجة إلى المحاكمة العلنية أمام محكمة الجنايات في بيروت، رغم إبلاغها على عنوانها في أوستراليا، ما اضطر المحكمة إلى إصدار حكم غيابي. أخيراً، جاء الحكم خلافاً لما كان يتوقعه كثيرون: «عدم تجريم سمر بالجناية المنصوص عليها في المادة 495 من قانون العقوبات، وعدم إدانتها بالجنحة المنصوص عنها في المادة عينها، وبإبطال التعقبات واسترداد مذكرة إلقاء القبض الصادرة بحقها، وبالرجوع عن جميع الإجراءات المتخذة».
ربما هذه من المرات القليلة التي لا يتوقف فيها القضاء عند ما يسمى «الولاية الجبرية» للأب، ولا يعاقب الأم بتهمة «الخطف» بحسب منطوق المادة 495 عقوبات. فبحسب مسؤول قضائي متابع لهذه القضية «لا يمكن تصديق أن الأم التي حملت وربّت سيأتي يوم وتخطف فيه فلذات أكبادها».
لكن إلامَ استندت المحكمة في إصدار هذا الحكم؟
هي من المرات القليلة التي لا يتوقف فيها القضاء عند ما يسمى «الولاية الجبرية» للأب
جاء في نص الحكم الاجتهادي أن المادة المشار إليها تجرّم وتعاقب «كل من خطف أو أبعد قاصراً دون 18 عاماً، بقصد نزعه عن سلطة من له الولاية أو الحراسة عليه. لكن لا يشمل نطاق تطبيق هذه المادة الفعل المرتكب من الأب أو الأم بحق القاصر. ولو قصد المشرّع عكس ذلك، لكان قد نص على ذلك صراحة، كما هي الحال في المادة 496 من القانون نفسه، التي أوردت بصورة صريحة أن الأب والأم اللذين لا يمتثلان لأمر القاضي بإحضار القاصر يعاقبان بالحبس والغرامة».
أوردت القاضية هيلانة اسكندر، رئيسة محكمة الجنايات في بيروت، ما يعزز الاجتهاد المشار إليه، وذلك من خلال المقارنة بين المادتين 495 و 496 من القانون اللبناني مع المادتين 354 و 357 من قانون العقوبات الفرنسي، الذي كان ساري المفعول بتاريخ إقرار القانون اللبناني عام 1943. بناءً على ذلك، «يقتضى لاستنباط نية المشترع اللبناني العودة إلى القانون الفرنسي المذكور، حيث امتنع الاجتهاد الفرنسي عن تطبيق المادة 354 (المقتبس عنها نص المادة 495 من القانون اللبناني) على الأب والأم، مستنداً إلى الروابط الخاصة التي تربطهما ببعضهما من جهة، وبأولادهما من جهة أخرى».
رأى العديد من الناشطين في مجال حقوق الإنسان والمرأة في الحكم الصادر «خطوة إيجابية» تُسجّل لمصلحة القضاء في لبنان. فرأت رولا المصري، الناشطة في جمعية «جنسيتي حق لي ولأسرتي» أن القضاء «يثبت مرّة جديدة نزاهة وقدرة على الحكم بضمير، رغم أن الجسم القضائي ككل غير منزّه عن السياسة، لكن هناك قضاة يفتخر بهم لبنان». من جهته، رأى المحامي والخبير القانوني كمال أبو ظهر أن مسألة «الولاية الجبرية» تتعلق بقوانين المحاكم الدينية، وهذه القوانين تختلف باختلاف التشريعات الموجودة لدى كل طائفة، وإن كانت «تجمع كلها على الولاية الجبرية للأب على الأولاد». يشير المحامي أبو ظهر إلى «القسوة» التي تُعامل فيها المرأة من خلال القوانين، بحيث إنه كان، حتى الأمس القريب، لا يمكن المرأة أن تحصل على جواز سفر إلا بإذن زوجها، «ورغم التعديل الذي حصل في القوانين الفرنسية، فإن التعديل جاء في لبنان متأخراً بعد عقود، ومع ذلك لم يكن التعديل شاملاً، إذ طال بعض القضايا فقط».


لقطة

أشادت الناشطة في مجال حقوق المرأة، المحامية إقبال دوغان، بالحكم الصادر عن محكمة الجنايات في بيروت، ورأت فيه أنه «أنصف المرأة، ومنع عنها تهمة الخطف. فالأم لا يمكن أن تخطف أولادها، ولذلك أوجّه تحية محبة وتقدير إلى القاضية صاحبة الاجتهاد». ولفتت دوغان إلى وجود 15 قانوناً للأحوال الشخصية في لبنان، كلها تنص على أن الوصاية للأب. فحتى حق الحضانة الذي يحكم به للأم «تكون مدته قصيرة جداً، ولذلك لا بد من تعديل جميع هذه القوانين، لتصبح حقوق الأم في هذا الخصوص مثل حقوق الأب، لأن القوانين الحالية هي لمصلحة الرجل برمّتها وكثيراً ما تُظلم المرأة من خلالها. وعلى سبيل المثال، عندما تنتهي مدّة الحضانة، يسلخ الأب الولد من حضن أمه، ولكن عندما تأخذ الأم أطفالها تقوم الدنيا ولا تقعد، بل وتُجرّم في أغلب الأحيان وتُعاقب». أخيراً، دعت دوغان إلى عدم إهمال حقوق الأب أيضاً في أي تعديل، وإلى أن يحصل الأمر بالتراضي بين الأم والأب.