في لبنان معهد واحد لإصلاح الأحداث الخارجين عن القانون. 23 ولداً يتابعون دروس التأهيل المهني تحت إشراف مختصين نفسيين، رغم النقص في الكادر البشري وضآلة الموازنة المخصصة للمعهد، فضلاً عن مشكلة تأخر صدور الأحكام
زينب زعيتر
تقف عند مدخل إصلاحية الأحداث في الفنار، تشعر بشيء من الاستغراب، فلا وجود لعناصر قوى الأمن، ولا حارس بلباس عسكري، مع أنّك أمام سجن للأحداث. بعد ساعات سيتبدل هذا الشعور، ساعات قليلة تتعرّف خلالها إلى نظام المركز والهدف منه. الأحداث في المركز هم في معهد يشبه المدرسة الداخلية «بل أفضل منها».
لدى دخولنا، كان الملعب الخارجي فارغاً، لا ضجيج، ولا همس، هدوء كان يسيطر على المكان، نتوجه إلى الداخل، فنجد الأولاد موزعين في صفوفهم، كلٌّ يتابع دروسه المهنية والأكاديمية.
بعد فترة انقلب المشهد. حل وقت الاستراحة، فعجّ الملعب الداخلي بـ23 ولداً كانت تشي نظراتهم برغبة كبيرة في معرفة هوية الزوار ومحاولة الاقتراب منهم علّهم يحظون بصورة من عدسة المصوّر. التقينا بباسل ورامي وزياد ونبيل وآخرين من نزلاء الإصلاحية.
تنظر إلى باسل (15 عاماً)، تحار لوجوده في الإصلاحية، وقبل أن تنطق بالسؤال، يبدو كأنه فهم حيرتك، يسارع إلى الكلام ويقر بارتكابه جريمة قتل عن غير قصد. ها هو يقضي شهره الرابع في معهد إصلاح الأحداث في الفنار. خلال هذه الأشهر حصل على شهادة في الكهرباء، «عندما أخرج من الإصلاحية أريد أن أعمل في الكهرباء، لا في الطهو لأنّها مهنة النساء». يكمل باسل دروسه اليوم في صفوف الفندقية، ولم يصدر بعد الحكم النهائي لقضيته. أمّا رامي (16 عاماً)، فدخل إلى الإصلاحية بموجب قرار حماية بطلب من الأهل لأنّه كان يمضي طوال النهار خارج المنزل ولا يمتثل لأوامر أهله، إضافة إلى افتعاله الكثير من المشاكل مع رفاقه. قد يستمر قرار الحماية هذا لمدة ستة أشهر مع إمكان التجديد بحسب سلوك رامي. ويؤكّد قائلاً: «سأخرج من هنا وأغيّر سلوكي، سأحترم الناس جميعاً وأبتعد عن المشاكل. أريد أن أصبح خطاطاً».
إن كان الحدث بحاجة إلى المحاسبة فليحاسب، وإلا فلماذا يُترك هنا شهرين أو أكثر من دون محاكمة؟
يدخل الأحداث الخارجون عن القانون إلى الإصلاحية بسبب ارتكاب فعل خاطئ أو بقرار حماية. فور إلقاء القبض على الحدث المخالف تستدعي قوى الأمن المختصة مندوباً اجتماعياً من مكتب الأحداث في وزارة العدل. يحضر المندوب كامل جلسات التحقيق للتأكّد من عدم حصول أي ضغط على الولد، ويتابع حالته وظروفه. وبناءً على تقرير المندوب يُحال الحدث على إصلاحية الأحداث في الفنار أو على سجن رومية، نظراً إلى الجرم ونسبة تحولّه إلى السلوك الانحرافي.
معظم المندوبين من الجنس اللطيف، يبحثون الوضع الاجتماعي لعائلة الحدث والجو الأسري الذي يعيش فيه، والبيئة المحيطة به، إضافة إلى تعريف الحدث بالنظام والقانون في الإصلاحية. ففي الإصلاحية لا يستطيع الولد التدخين، كذلك يجب أن يستيقظ صباحاً.
«تدبير الحماية» أمر يقرره الأهل إذا شعروا بأن سلوك ابنهم قد يؤدّي به إلى الانحراف، فيتصلون بالمندوبة الاجتماعية في وزارة العدل، ويُحال الحدث على محكمة الأحداث، ويأتي القرار بإبقائه في الإصلاحية لمدّة لا تتجاوز ستة أشهر.
يمكن أن يكون الذنب الذي اقترفه الولد بسيطاً، ولا يدعو إلى أن يوضع في الإصلاحية لفترة طويلة، غير أنّ محكمة الأحداث قد ترى أنّ بقاءه خارج المركز سيجعله عرضة للانحراف، فتقرر أن تبقيه في المعهد لفترة.
إضافة إلى تقرير المندوبة الاجتماعية، ثمة معايير تُعتمد قبل صدور القرار بنقل الحدث إلى الإصلاحية. فالحدث الصغير جداً في السن يُحال فوراً على الإصلاحية، كذلك لا يستقبل المركز مرتكبي جرائم القتل عن قصد، ولا متعاطي المخدرات، لأنّ الإصلاحية تفتقر إلى مركز لعلاج الإدمان، بحسب حسين سلمان مدير معهد إصلاح الأحداث في الفنار. يقول سلمان: «يستوعب المعهد نحو 45 ولداً فقط، وهو المركز الوحيد في لبنان الذي يستقبل الأحداث الخارجين عن القانون، بعدما أُقفل مركزان في بعاصير وواحة الشبيبة بسبب العجز في موازنة الدولة». يشرف اتحاد حماية الأحداث على المعهد، وقد تأسس عام 1936 واكتسب صفة المنفعة العامة. يطلب «اتحاد حماية الأحداث» من مصلحة حماية الأحداث أن ترسل مندوبيها في زيارات شهرية للمركز، وأن تعطي ملاحظاتها للاتحاد عن سير العمل في الإصلاحية.
يخرج الأحداث برفقة الأساتذة إلى النزهة خارج المعهد مرتين في الشهر
كيف تُوَفّر مصاريف المعهد؟ يمكن الكلام على مصدرين رئيسيين: المصدر الأول هو إسهام مالي من وزارة العدل، وتغطّي هذه الموازنة رواتب الموظفيّن ويصل عددهم إلى 11 موظّفاً، إضافة إلى توفير الملبس للأحداث. أمّا الطعام فتوفر تكلفته قوى الأمن الداخلي. يقول سلمان: «تعمل الجمعيات والمؤسسات غير الحكومية على مساندة المعهد مالياً من خلال إسهامها في الدعم المالي للنشاطات التي تُقام في المركز. كان المركز سابقاً تحت إشراف وزارة الشؤون الاجتماعية، وبعد القرار بإلحاق كل السجون بوزارة العدل، انتقلنا من وصاية الوزارة الأولى إلى وزارة العدل». يتابع: «لا تكفي الموازنة المالية المرصودة للإصلاحية، فنحن نأمل أن يُنشأ أكثر من مركز في جميع المحافظات لاستيعاب عدد أكبر من الأحداث».
تتألّف إصلاحية الأحداث في الفنار من ثلاث طبقات، طابقان منها للمنامة. وفي المركز اليوم 23 حدثاً مخالفاً للقانون، معظمهم ارتكبوا السرقة والباقون موجودون بموجب قرار حماية.
خياطة ونجارة وكهرباء
في المعهد مشغل للخياطة استُحدث أخيراً، ومعمل نجارة وورش موبيليا ومطبخ وكهرباء. إنهم التلاميذ، هكذا يُسمى الأحداث في المركز، يوزعون على الصفوف بحيث إن كل ولد في المعهد يأخذ دروسه في كل الاختصاصات.
فترة انتظار صدور الأحكام مرحلة صعبة، وإذا تأخر صدور الحكم فقد يشعر الحدث باليأس، لذا تكتسب صفوف التأهيل المهني أهمية كبيرة. ويلفت سلمان قائلاً: «نسعى إلى استحداث صف الحدادة».
ماذا عن الأحداث الأميين؟ يقول مدير المعهد إنهم يحالون على صف محو الأمية، وقبل الالتحاق بالصفوف المهنية «نسأل الولد عادة عن المهنة التي يفضّل أن يتعلمها وننزل عند رغبته. دورة التعليم في المركز تمكّن الولد من متابعة جميع الصفوف، لكن على مراحل». يقول سلمان: «الهدف من ذلك أن نجعل الحدث يعرف كيف يقدّم وينتج، ويتعلّم معنى الصبر والتحمّل ويشعر بأنّه إنسان نافع. يجري هذا العمل بالتعاون مع المختصين الاجتماعيين والنفسيين».
النشاطات التي يحتضنها المعهد تأتي ضمن برامج التأهيل، فهناك صف الموسيقى، وغرفة النقد والسينما، وصالة الكمبيوتر، وصالات الألعاب الشتوية، والملعب الصيفي.
أما زيارات الأهل فيُسمح بها نهار الجمعة، ويخرج الأولاد برفقة الأساتذة إلى النزهة خارج المعهد مرتين في الشهر.
يستيقظ الأحداث السادسة صباحاً، أمّا في أيام السبت والأحد فيستيقظون متأخرين قليلاً. الفطور عند الساعة السابعة والنصف، ويقوم فريق من الاولاد ـــــ يتبدّل أسبوعياً ـــــ بترتيب المائدة والجلي. بعد ذلك تبدأ الصفوف، وتستمر حتى وقت الغداء، ومن الغداء إلى الاستحمام اليومي، فإلى الملعب والسهرة تكون أمام التلفاز، على أن ينام الجميع عند التاسعة والنصف.
التأهيل النفسي هو إحدى طرق إعادة التأهيل في الإصلاحية، ويشرف الدكتور روبير كراكاش المرشد والمعالج النفساني على الوضع النفسي للأحداث. «هؤلاء بحاجة إلى مرافقة وإلى ترميم شخصياتهم التي تعاني الجروح ورواسب الطفولة». يقسم كراكاش الأحداث إلى قسمين: القسم الأول هو الحالات المرضية التي تعاني انحرافات سلوكية في التركيبة والتكوين الطبيعي، وتميل إلى العنف والشر. «والعدد الذي يأتي إلى الإصلاحية ويحمل هذا النوع من الانحراف السلوكي قليل جداً، ومن الصعب جداً العمل على إعادة بناء شخصيات هؤلاء، فيدخلون إلى الإصلاحية مرات عدّة وينتهي بهم الأمر في السجن». النوع الآخر من الحالات مشاكلهم مكتسبة نتيجة ظروف بيئية أو عائلية سيئة، وتكون شخصياتهم قابلة للإصلاح النفسي. يتابع كراكاش "التأهيل النفسي هو من أساسيات العمل للتوفيق بين النزعة الغريزية المائلة إلى الشر في الإنسان، وبين الأنا المثالي، أي التدرب على اكتساب القيم والمثل العليا والدين ومعرفة الممنوعات. وبالتالي تصبح لدى الإنسان القدرة على التمييز بين الخير والشر، وبين المسموح والمكروه».
يرى سلمان أنّ التنفيس عن الغضب من الأمور الضرورية بالنسبة إلى الأولاد، ولا ينزعج أبداً إذا قام أحدهم بتخريب محتويات الصفوف أو تكسير بعض المعدات. هرب أحد الأحداث من الإصلاحية قبل شهرين، وتمكنت الإدارة من إرجاعه فوراً إلى المعهد.
الكادر البشري من العمال والأساتذة لا يفي كثيراً بالغرض، والمبنى في حاجة إلى المتابعة والتحسين
هرب بلال خلال لعب الفوتبول خارج المعهد قاصداً منزل والديه، وقبل أن يصل إلى المنزل كانت الإدارة قد اتصلت بالأهل وأخبرتهم بما حصل. قضى بلال النهار مع ذويه ثم أعادوه إلى المعهد. ملف بلال «جامد في القضاء»، بسبب عدم حضور أحد المعنيين إلى الجلسات لاستكمال المحاكمة. وكان قد مضى على وجوده في المعهد مدّة سنة.
لا يستخدم الأساتذة أسلوب الضرب أبداً وسيلةً للتأنيب في الإصلاحية، ويكون العقاب لمن يرتكب المخالفات حرمانه الاتصال بالأهل أو المنع من الزيارة. يكون ذلك بناءً على دفتر المخالفات الذي تُسجّل عليه المخالفات المرتكبة لكل ولد.
من صلاحيات إدارة الإصلاحية أيضاً، ما يُسمّى «الاستبدال». فإذا كان أحد الأحداث محكوماً بعامين، وكان سلوكه جيداً، يستطيع القيّمون على المركز أنّ يتقدموّا بطلب استبدال حكم، ويقضي الولد نصف المدّة فقط، على أن يبقى بعد خروجه تحت إشراف ومراقبة اجتماعية، يتولاها مندوبون اجتماعيون في مكتب الأحداث في وزارة العدل. بعض الأحداث يخرجون من الإصلاحية بعد انقضاء فترة حكمهم، لكنهم يبقون تحت المراقبة الاجتماعية، بناءً على طلب محكمة الأحداث.
نقص في الكادر البشري
يتحدث سلمان عن النقص وصعوبات العمل، فـ«الكادر البشري من العمال والأساتذة لا يفي كثيراً بالغرض، فإذا أخذ أي من الأساتذة إجازة يظهر الفراغ فوراً. وبالنسبة إلى التجهيزات، فالمبنى في حاجة إلى الكثير من المتابعة والتحسين. المركز مقبول، لكنه يحتاج إلى الصيانة، ونطمح إلى أن نحصل على صالة مسرح، وصيانة وتجهيز لأجهزة الكمبيوتر. الصفوف المهنية جاهزة، لكن اطلب من وزارة التربية زيادة عدد الأساتذة للتعليم الأكاديمي».
يرى سلمان أنّ «من الأفضل وجود قاضي أحداث يداوم في المركز هنا، ويتابع ملف الولد. فإذا كان الحدث بحاجة إلى المحاسبة، فليحاسب، وإلّا فلماذا يُترك هنا شهرين أو أكثر من دون محاكمة؟ ما أقوله ليس ملامة، بل مجرّد رسالة أتوجّه بها إلى الجهات المختصة للتعجيل والسرعة في بتّ القضايا الخاصة بالأحداث».
يرفض سلمان التعليق على قانون 422 الخاص بالأحداث، المعدّل بالصيغة النهائية عام 2002، ويكتفي بالقول إنّه «قبل التعديل، كانت لنا الصلاحية في اقتراح أو إبداء الرأي والتعديل على المواد. لكن مع قانون 422، فإن القاضي لديه الحق في القبول والرفض تجاه أي موضوع يخص محاكمة الأحداث».


مركز للمتسولين؟ ليس من الأولويات

الإصلاحية تعمل قدر المستطاع وبالإمكانات المتاحة. غير أنّ إدارة اتحاد حماية الأحداث القائمة على الإصلاحية باتت هرمة وفي حاجة إلى إعادة هيكلية، بحسب المدير العام لوزارة العدل القاضي عمر الناطور. «الإصلاحية تفي بالغرض وتحقق الهدف الذي من أجله كان المركز، وهو أن نضع الأحداث المخالفين في بيئة لا تشبه السجن». يؤكّد الناطور ضرورة أن تفكّر الدولة في تنظيم الإصلاحية ودعمها، إضافة إلى استحداث مراكز أخرى لاستقبال الأحداث المخالفين للقانون، لكن لا يأتي هذا حالياً ضمن أولويات الدولة.
كثر أخيراً الحديث عن مشروع يقضي بإدخال جميع الأحداث المتسولين إلى مراكز إصلاحية. يرفض الناطور استباق الأمور «التشدد في أمور المتسولين وإدخالهم إلى الإصلاحيات ليس بيد وزير الداخلية فقط، بل هو مشروع بحاجة إلى عملية اجتماعية طويلة تشارك فيها أجهزة الدولة، والأمر ليس مطروحاً بهذه السرعة. فلا نستطيع أن نعرف كيف ستحكم محكمة الأحداث ضد المتسولين، وأين سيُحالون وأي مركز سيستوعبهم».