زياد عبد الله
يمكن أن يحدث أيّ شي في كرويتسبيرغ، حيّ المهاجرين في برلين. يمكن صاحب المقهى أمام البناية التي تسكنها أن يقول لك «ما شاء الله» عوضاً عن «صباح الخير»، فهو تركي يريد أن يكلّمك العربية. يمكن أن تعرف فجأةً أنّ المصوّر السينمائي العراقي ماجد كامل هو جارك في البناية نفسها. ستجده جالساً على كنبته ساهماً، وقد تمضي الوقت وأنت تحاول دفعه للحديث عن نفسه، بينما هو مصرّ على أن يكتفي بتاريخ السينما العراقية. متعلّقاته ليست سوى بضع أوراق وصور وتذكارات وضعها في حقيبة جلديّة، وذاكرة تمتدّ من الأربعينيات. ذلك قبل نهب المعدّات السينمائية التي كان يحويها مبنى وحدة الإنتاج السينمائي في الصالحية قرب الكرخ، مع دخول القوات الأميركية إلى العراق... «كنّا نريد أن نصنع سينما فصار العراق سينما»، يقول ماجد كامل.
لم يتزوّج، يقول «لم يكن هناك من وقت... كانت هناك علاقات وعلاقات»، يكرّرها مرتين. يعيش وحيداً، قد يأتي أخوه نامق من لندن، ويخرجه من عزلته لأيام، ثمّ يعود إليها كما كنبته التي يستدعي إليها العالم، وأمامه تلفزيون صغير لا يفارق الـ«بي. بي. سي». السينما كانت حياة كامل الشخصية. هو ما زال بانتظار أمّه التي خرجت من البيت منذ أكثر من 20 سنة ولم تعد حتى الآن. بقي ينتظرها في العراق، وهو يضع الإعلان تلو الآخر في الصحف عن امرأة اختفت. حتى إنّ الاستخبارات استدعته وطالبته بالتوقّف عن ذلك، معتبرةً أنّ اختفاء امرأة لا يُعدّ شيئاً أمام العشرات الذين يقتلون يومياً إبان الحرب العراقية الإيرانية. السينما مجدّداً تتداخل مع حياته. حين غادر العراق إلى الكويت لوداع أخيه نامق، وجد القوات العراقية قد سبقته إلى هناك. عندما عاد، كان برفقتها وهي تنسحب من الكويت. حينها، شاهد الجحيم طوال طريق عودته كما لو أنّه في فيلم خيال علمي.
انغماسه في السينما والتصوير هبط عليه بينما كان يبحث عن عمل مطلع الخمسينيات. عُيّن مع محمد شكري جميل ولطيف صالح وعاطف عبد الكريم وسيمون مهران في وحدة إنتاج الأفلام التابعة لشركة نفط العراق. «لم يكن خياري سينمائياً، المصادفة قادتني بمساعدة صديق متنفّذ». أخضعوه لدورات تدريبية في التصوير والمونتاج والإخراج، بإشراف طاقم سينمائي إنكليزي على رأسه المخرج جون شرمان. حينها، لم يكن هناك من سينمائيّين عراقيين، بل هواة ومحاولات ترتّب عليها إنشاء «استديو بغداد» في الأربعينيات بمبادرة من تاجر يهودي كان يملك سينما «روكسي». أنتج هؤلاء حفنة أفلام بدوية على مبدأ «الكاوبواي»، مثل فيلم «عليا وعصام» الذي صوّر بكوادر فرنسية.
يحدّثنا ماجد كامل، أوّل مصور سينمائي في تاريخ العراق، عن برتقال بعقوبة، لأنّه كان برفقة جون شرمان حين صوّر فيلماً عنه. كان اهتمام «وحدة إنتاج الأفلام» منصبّاً حصراً على الأفلام الوثائقية، والأولويّة دائماً كانت النفط العراقي، وصناعة القوارب على ضفاف دجلة، وصولاً إلى فيلم يصفه ماجد كامل بالمهمّ حمل عنوان «العراق الخالد». تعيده الذاكرة إلى فيلم عن انهيار سدّ دجلة وغرق بغداد بالمياه، «حمل الفيلم عنوان قصيدة لنازك الملائكة أضافها إلى الفيلم جبرا ابراهيم جبرا، الذي كان يشغل منصب مدير العلاقات العامة في شركة النفط». أوّل فيلم صوّره كامل كان عن «المصايف» في العراق ضمن الوحدة نفسها، وكان من إخراج العراقي فيكتور حداد...
ستكون التواريخ مفصلية في حياة ماجد كامل، والسينما العراقية. مع ثورة 1958، أسهم في تأسيس «مصلحة السينما والمسرح» التابعة لوزارة الإعلام، وتولّى الثقافة السينمائية في مجلة «العراق الجديد»، إضافةً إلى تحويل بيته إلى استديو للصوت والصورة. وفي السنة نفسها، انتسب إلى الحزب الشيوعي العراقي: «زينب نسبتني إلى الحزب، لم أكن حزبياً مرّاً. حضرت اجتماعات قليلة، لكني كنت يسارياً وما زلت». ويقودنا ذكر الراحلة زينب (فخرية عبد الكريم) رائدة التمثيل في العراق، إلى الفيلم العراقي الأشهر «سعيد أفندي»، وبالتأكيد الممثل والمسرحي العراقي يوسف العاني الذي صوّر كامل معه فيلم «أبو هيلة».
ستتزاحم الأفلام التي صوّرها ماجد كامل. سيتوقّف عند «نبوخذ نصّر» إخراج كامل العزاوي، الذي كان أول فيلم عربي ملوّن صوِّر عام 1956، ولم يُعرض حتى 1960. سيتذكّر أكثر ما يتذكّر فيلم «قطار الساعة السابعة» (1962) للمخرج حكمت لبيب الذي صوّره بكاميرا محمولة في ديالى، وكان يحكي على طريقة الواقعية الإيطالية الجديدة حياة موظّف في محطة قطار... إضافةً إلى أفلام أخرى صوّرها في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات.
هجرة ماجد كامل إلى ألمانيا حدثت مرتين. الأولى كانت بعد انقلاب شباط 1963 والتضييق الأمني عليه. ومع وصوله إلى ألمانيا الديموقراطية، عمل في التلفزيون الرسمي الألماني، وتحديداً في برنامج «عدسة»، الذي كان برنامجاً نقدياً، يرصد أيّ ممارسة خاطئة في التطبيق الاشتراكي في المؤسسات والدوائر والمعامل في ألمانيا الشرقية. التحق بمعهد السينما في بابلسبيرغ، وعمل بعد تخرّجه في تصوير أفلام سينمائية مع مخرجين ألمان كبار مثل كارل غاس.
في عام 1971، استُدعي إلى العراق، لإحياء السينما العراقية من جديد، في مرحلة يسمّيها «مرحلة الجبهة» ويَعدّها اللحظة الأكثر إشراقاً في تاريخ العراق الحديث: «شعرت بأن كل شيء تغيّر، وبأنّ الأمل كبير، والأحلام ستتحقّق»، لكن سرعان ما انهار كل شيء «على يد صدام حسين، الذي كان متربّصاً بكل ما كان يبشّر به عام 1971».
سيواصل ماجد كامل حياته في العراق. سيفتتح مكتبة بعد إحالته على التقاعد، ولن يبقى في نظر النظام السابق إلّا شيوعياً. حين عرف من صديق له أنّ تصنيفه الأمني هو: «مناوئ للنظام» اضطر مجدداً إلى العودة إلى ألمانيا بعدما توحّدت، وصار لاجئاً. كانت عدسة الكاميرا هي الخليلة التي رأى من خلالها العالم. هو الذي يبحث عن صورة له فلا يجد صورة مناسبة. تصوِّره فيثني على الصورة فتقول «هذه شهادة من مصوّر كبير». حين تسأله عن أجمل الأفلام التي شاهدها، يجابه السؤال بنزق. لا يتحدث عن أنطونيوني ولا فيلليني، ولا عن أيّ من هؤلاء المخرجين الذين وقع في غرامهم. يكون جوابه مفاجئاً: «إنه فيلم «الحدود»» (لمحمد الماغوط ودريد لحام). أكرّر: «الحدود»؟ فيهزّ رأسه تأكيداً. «إنه يحكي عن حياتي وحياة العراقيّين».


5 تواريخ

1934
الولادة في بغداد

1954
العمل مع وحدة إنتاج الأفلام التابعة لشركة نفط العراق

1962
صوّر في ديالى فيلم «قطار الساعة الـ7» إخراج حكمت لبيب

1963
عمل في تلفزيون ألمانيا الديموقراطية. بعد ثماني سنوات عاد إلى بلاده حالماً بإحياء السينما العراقيّة

2010
كل شيء هادئ في كرويتسبيرغ، من هناك يتلصّص على عراقه... ويتصارع مع المرض