يبدو مشهد العمل في مرافق الجمارك اللبنانية وإداراتها مبهماً بالنسبة إلى المواطنين، لكنّ التغلغل فيها يلفت إلى نقص الإمكانات البشرية والماديّة الذي تعانيه. من أبرز الأسئلة التي تُطرح هو ما هي آليات العمل في الجمارك؟ ولماذا يكبر نفوذ بعض مخلّصي الضرائب؟
نبيل مقدم
«رغم أن إدارة الجمارك توفّر ما يزيد على أربعين في المئة من واردات الدولة، فإننا نرى الدولة تبخل إلى حدّ بعيد في دعم هذه الإدارة في مجال التجهيز والعتاد، وفي زيادة عديدها»، يردّد هذه الشكوى أحد ضبّاط الجمارك، متحدّثاً عن تقصير دفع الإدارة السياسية إلى تكليف العديد من الأجهزة العسكرية القيام بمهمّات خاصة بإدارة الجمارك، «هذا ما أدى إلى تداخل في أعمال السلطات، وهو بالطبع مخالف لمبدأ الفصل في ما بينها».
«كيف لنا أن نكافح عمليات التهريب مكافحة فعّالة في ظل النقص الكبير في العناصر والتجهيزات» يقول النقيب يوسف (اسم مستعار) من مصلحة البحث عن التهريب في الجمارك اللبنانية، «فرجال الضابطة الجمركية ألفان من مختلف الرتب، فيما المطلوب أن يرتفع العدد إلى خمسة آلاف لنقوم بعملنا على أكمل وجه»، يضيف النقيب.
بعض المتابعين يرون أنّ ضعف الإمكانات البشرية والمادية في الجمارك اللبنانية استغلّه البعض لفتح ثُغر في بنية النظام الجمركي، والنفاذ منها نحو جني مكاسب غير مشروعة على حساب الخزينة، وأمن المواطن الاقتصادي والاجتماعي.
تعتمد إدارة الجمارك للكشف على البضائع ومعاينتها والتحقّق من سلامة البيان الجمركي على معايير معيّنة ومتحركة، بحيث يصار إلى انتقاء بيانات محدّدة بطريقة عشوائيّة، ووضعها إلكترونياً على نظام يسمّى النظام الجمركي المعلوماتي (نجم). هذا النظام يُعالج البيانات الجمركية وفق مسارين أحمر وأخضر. المسار الأحمر يعني وجود شكوك في طبيعة المعلومات المصرّح عنها، ما يوجب الكشف الإلزمي على البضاعة. أمّا المسار الأخضر، فهو الذي يسمح بدفع الرسوم والضرائب دون الكشف على البضاعة. مسؤولون متابعون لملف الجمارك اللبنانية تحدثوا لـ«الأخبار» عن عمليات تلاعب، قالوا إنّ بعض الموظفين يتلاعبون بنظام «نجم» لمصلحة بعض التجار والمخلّصين الجمركيّين.
لا ينفي مسؤول في الجمارك اللبنانية هذه المعلومات، ويكشف أنه سيُعلَن قريباً نظام معلوماتي جديد، «على أمل أن يسهم في تلافي هذه الثغرة تماماً». يتخوّف المسؤول الجمركي من مفاعيل تطبيق نظام «نور»، وهو نظام جمركي معلوماتي يسمح بالتصريح عن البضاعة عن بُعد بواسطة الكمبيوتر الشخصي للتاجر أو المخلّص الجمركي، ومصدر التخوّف هو حصول عمليات تزوير في البيانات الجمركية في ظل عدم وجود المكننة اللازمة في مكتب «الرقابة اللاحقة».

نقاش داخلي

المادة 57 من قانون الجمارك تسمح بإخراج البضائع من الحرم الجمركي قبل صدور نتائج التحاليل، أو قبل تأشير المعاملات الجمركية، على أن تُستثنى من أحكام القرار المواد الغذائية الواجب تحليلها وفحصها. تطبيق هذه المادة أثار نقاشاً داخل الإدارة الجمركية، يرى البعض أنّ ذلك سيؤدّي إلى تفادي اكتظاظ المرافئ بالبضائع، فيما يشدد آخرون على أن إسداء تسهيلات للتجار يجب أن لا يجري قبل تعزيز إمكانات «مصلحة البحث عن التهريب» بشرياً ومادياً، وفي هذا الإطار يلفت المراقب الجمركي حسان (اسم مستعار) إلى أنه «إذا كان يصعب علينا ضبط المتلاعبين وهم تحت أعيننا، فكيف سنضبطهم وهم بعيدون».
مسؤولون متابعون تحدثوا لـ«الأخبار» عن عيّنات من مواد غذائية يؤتَى بها من مستودعات التجار، وترسَل للفحص المخبري بدلاً من تلك المفترض استخراجها من الحمولة المستوردة، فيما يوقّع مندوب وزارة الزراعة شهادة بأن العيّنة استُخرجت من داخل البضاعة المستوردة وفي حضوره. هذه المعلومات تتقاطع مع حديث كان وزير الزراعة الدكتور حسين الحاج حسن قد أدلى به لـ«الأخبار»، وقال فيه إنّ ثمة تجّاراً ومستوردين لموادّ غذائية وأدوية زراعية يستحصلون على شهادة مخبرية بصلاحية شحناتهم حتى قبل أن تصل هذه الشحنات إلى الأراضي اللبنانية، ودعا الحاج حسن إلى إعادة التدقيق والمراجعة في الإجراءات الجمركية المتّبعة في جميع المرافق الحدودية، ولا سيّما في مرفأ بيروت، متحدّثاً عن مافيا كبيرة تملك النفوذ، وهي ناشطة في محاولة إغراق السوق بالمواد الفاسدة وغير الصالحة في كل ما يتعلق بصحة الإنسان وأمنه الغذائي.
يكثر الحديث في الأوساط الجمركية عن نفوذ كبير لبعض أصحاب مكاتب تخليص البضائع داخل القطاع الجمركي، هؤلاء يتجاوزون دورهم في التصريح التفصيلي عن البضائع إلى محاولة فرض تأثيرهم في موظفي الجمارك، بغية تسهيل معاملات غير قانونية لتجّار اعتادوا هذه الأساليب، ويكثر تداول أسمائهم، فيما يرفض نقيب أصحاب مكاتب تخليص البضائع، أنطوان كرم، ونائبه غسان سوبره، الحديث عن هذه المخالفات، ويريان أنّ النقابة غير معنيّة بالموضوع، لأنّ الانتساب إليها غير إلزامي. وفي هذا الإطار يُطرح السؤال عمّن هو المسؤول عن التأكّد من خضوع أصحاب المكاتب لقانون تنظيم مهنة العميل الجمركي، وهنا نلفت إلى أن المادة 119 تشترط على ممارسي مهنة مخلصي البضائع أن يكونوا من حملة الإجازة الجامعيّة اللبنانية أو ما يعادلها في الحقوق أو إدارة الأعمال أو التجارة أو العلوم الاقتصادية أو العلوم المالية، وأن يجتازوا بنجاح مباراة يحدّد موادّها وشروطها مدير الجمارك العام. فهل هذه الشرط مطبّقة اليوم؟

يكثر الحديث في الأوساط الجمركية عن نفوذ كبير لبعض أصحاب مكاتب تخليص البضائع
يجيب مسؤول في الجمارك «نعمل كل ما في وسعنا لسد كل الثغر التي من الممكن أن يتسرّب منها الفساد»، ويلفت إلى أنه جرى توقيع عقوبات بحق 227 عنصراً من عناصر الضابطة الجمركية من رتب مختلفة العام الماضي، وقد راوحت بين التأنيب والحسم من الراتب، وأحيل 12 عنصراً على المجلس التأديبي، وكوفئ 198 عنصراً لجهودهم المميزة، «أمّا في السلك الإداري، فقد وُقّعت عقوبات بحق 90 موظفاً، راوحت يين التأنيب والحسم من الراتب، ومُنح موظفان شهادتي رضى». المسؤول لفت إلى مشروع يجري إعداده ويسمّى «اللائحة الجمركية الذهبية»، وهو يقوم على إعطاء المستوردين من التجّار والصناعيّين جملة تسهيلات ضريبيّة وجمركية، إذا كان سجلّهم الجمركي خالياً من المخالفات لمدة ثلاث سنوات متتالية، وأن يعلَن دخول أسمائهم في هذه القائمة عبر وسائل الإعلام.
يرى الخبير الجمركي الدكتور حسين ضاهر أنّ مشكلة الجمارك تكمن في أنّ مديرية الجمارك تطبّق قرارات هي في معظمها غير جمركيّة، وهي تنفيذ مراسيم متعلّقة بوزارات أخرى، ويرى أنّ على الحكومة اللبنانية تفعيل حضور لبنان في اتفاقيّات جمركية دوليّة وقّعها، كما يدعو الخبير في شؤون الجمارك والنقل الدولي وزارة المال إلى تحديث منافذ العبور البريّة، وتشجيع الاستثمار على الحدود البرية بمنطقة حرة، أو مستودعات جمركيّة، وهذا ما يؤدّي إلى زيادة في الرسوم الجمركية، وإلى إيجاد فرص عمل أكبر للشاحنات اللبنانيّة.


جناحان: إداري وعسكري

تتولّى إدارة الجمارك، تحت إشراف وزير المال، استيفاء الرسوم عن البضائع المستوردة والمصدّرة، والحؤول دون إدخال البضائع أو تصديرها بصورة مخالفة للقانون. كما تتولّى هذه الإدارة تنظيم العمل في نظامي الإدخال المؤقّت والترانزيت، وفي المناطق الحرة والأسواق الحرة، كذلك تهتمّ بتطبيق الاتفاقات التجارية الدولية الثنائية والجماعية.
للجمارك اللبنانية جناحان: الأول إداري، يُعرف باسم موظفي المكتب، والثاني عسكري، يتكوّن من رجال الضابطة الجمركية. من أبرز أعمال موظفي المكتب الكشف على البضائع داخل الحرم الجمركي، واستيفاء الرسوم الجمركية، والتدقيق في بيانات البضائع.
أما أهمّ أعمال الضابطة الجمركية فهي مكافحة التهريب، ونقل البضاعة المهرّبة إلى المكاتب الجمركية، رجال هذا الضابطة ينتشرون على الحدود، وفي جميع الأمكنة التي تعمل فيها الجمارك، إنهم مخوّلون استعمال القوة أحياناً لتنفيذ مهمّاتهم، ويمكن اعتبار المعلومات التي ترد من سلطات أجنبية، ومحاضر الضبط والمستندات الصادرة عنها بمثابة بيّنات على وقوع الجرم.