ضحى شمستوفي «عمّو جورج»، أول من أمس، عن 94 عاماً. الله يعيّشنا قدّو، يكاد يقول البعض. لكنّ خبر وفاة عمّو جورج، أو جورج رفول حوّا، النازح عام النكبة عن مسقط رأسه عكا، والذي جنّسه كميل شمعون، كان مثالاً لحبّ الحياة والتشبث بها. كان أنيقاً و«عييشا». كان يحب دائماً ترداد أغنية عبد الوهاب: «يا دنيا يا غرامي/ يا دمعي يا ابتسامي/ مهما طالت آلامي/ بردو بحبك يا دنيا». ولأنه «بردو بيحبك يا دنيا»، برغم مصائب الفلسطينيين اليومية، تروي بناته الأربع كيف أنهن لم يرين والدهن تقريباً أبداً بالبيجاما. فالأناقة هي أولاً لأهل بيته. العطر، كان لا يفارقه، كما الحلم بالعودة إلى عكا، مسقط رأسه. ورغم كبر سنّه، ورغم تحذير الأطباء وخوفهم عليه، ودهشتهم المستمرة من «هذه المعجزة الحية»، إلا أنه كان يعاند جلوسه في كرسي نقّال ينتقص من أناقته، أو مواكبة ممرض أو حتى إحدى بناته له أثناء مشيه في الشارع. رياضته المفضّلة، ذهاب وإياب إلى المستشفى و«تلبيط» بعزرائيل، مرة بعد مرة لسنوات. فعمّو جورج لم يكن جاهزاً للرحيل لسبب ما. لا خوفاً من الموت، بل لأنه، كما تقول أمل ابنته، «كان ينتظر خبراً ما». في المرة الأخيرة التي رأيته فيها وكان عائداً من المستشفى، تحداني بكباش. انسحبت بودّ قائلة له إنني لست «قدّه»، فكفّ عمّو جورج مشهورة بقوتها، هو الرياضي السابق والسباح الماهر. لكن القوة الأكبر التي كانت تجعله قادراً على العودة في كل مرة من حيث لا يستطيع كثيرون أن يعودوا، اكتشفت منبعها ابنته أمل التي أسرّت لي بأنها تشك في أن والدها لا يريد أن يموت قبل أن يسمع خبراً يبشّر بالانتصار على إسرائيل. هكذا، روت كيف أنه خلال نوبات هذيانه في الليل كان يستدعي الجالس قربه ليقول له بصوت خفيض: «لازم نعمل مجموعة سرية ونهجم عليهم». و«هم» في الرواية «اليهود» لا الإسرائيليون، لأن عمّو جورج لم يكن يصدق هذه «الكذبة» التي تفرّق بين اليهود والصهاينة. ولا زلت أذكر البهدلة التي أكلتها، حين هيّئ إلي على طاولة الغداء ذات يوم (كان في السادسة والثمانين) أن أقول أنه ليس كل اليهود صهاينة. «ويا كلمة اللي قلتها»، «عبّق» وجهه بالغضب و«انفجر» حرفياً، متناسياً حتى أنني ضيفة. ضرب على الطاولة، فاهتزّت صحون البورسلين الأنيقة التي كانت إيزا، زوجته، تضع فيها ورق العنب بالمقادم الذي اشتهرت به، وهو يقول: «كل اليهود صهاينة. كل واحد قعد على أرض فلسطين محل واحد فلسطيني، شو بيكون؟ مش صهيوني؟». رفعت أمل حاجبيها خلسة محذرة، فالموضوع ليس مطروحاً «للتفاهم» مع عمّو جورج، لأنه ببساطة «ممكن يروح فيها»، أي أن يصاب بذبحة صدرية. لذا، «كوّعتُ» بكل بساطة، واستدرتُ استدارة أين منها استدارات جنبلاط الحادة، وأنا أقول: «ما فهمت عليي عمّو ..قصدي..» .
ولقد كبرت هذه الفكرة في ذهن أمل حتى راودتها نفسها، وهي المتألمة لاحتضار والدها الطويل، أن تختار لحظة ما قبل النهاية لتزفّ إليه خبر «قصف إسرائيل» وتراجعها أمام جيوش تحرير فلسطين. أرادت أمل أن تنتحل صفة أحمد سعيد لأسباب إنسانية، لكنها تراجعت أمام الفكرة الآتية: ماذا لو أعادته هذه الفكرة إلى الحياة؟ كيف ستبرّر كذبتها لوالدها؟
تستعيد أمل نشرة أخبار الأسابيع الماضية: كانت إسرائيل تقصف أسطول الحرية، ونجح الأتراك في وضع الدولة العبرية في مأزق دولي، إلا أنني شككت في أن يكون هذا الخبر قد أصاب «عمّو جورج» بالسرور، هو القومي العربي. لا بل أظن أن هذا الخبر قد يكون سرّع في أن يحزم عمّو جورج أمره ويغادرنا: فالخبر جميل لدرجة أن يتذرّع به للرحيل مطمئناً إلى مصير القضية، وحزين في الوقت ذاته بما يكفي ليجعله لا ينتطر ليرى فلسطين تتحرر على أيدي ..الأتراك، دون أن يكون للعرب أهله، أيّ دور في ذلك.
عمّو جورج: وحياتك سنفعل ما قالته فيروز. وحياتك «سنرجع يوماً إلى حيّنا».