يستوطنون الأرصفة وتقاطع الطرق، يرصدون السيارات، يمدّون أيديهم باتجاه السائقين والركاب والمارّة. جموع المتسوّلين تجتاح البلاد، القانون اللبناني يجرّمهم، لكن المعالجة الأمنية والقضائية لا تزال قاصرة عن إيجاد الحل
رضوان مرتضى ـ نانسي رزّوق
يُجبر فيصل أ. (50 عاماً) أولاده الثلاثة على التسوّل، لكنه يُعلّل تسوّلهم بسعي عائلته وراء لقمة العيش. أما سبب امتناعه عن العمل، فيتذرّع والد المتسوّلين الصغار بحجّة المرض الذي أقعده عن طلب الرزق، إذ إنه يعاني آلاماً في الظهر ويتناول الكثير من الأدوية.
لم يُرسل فيصل أولاده إلى المدرسة، فهو يُخبر بأنهم يعملون في بيع الورود برفقة أولاد صديقه الأربعة. العمل بالنسبة له ضروري وحيوي أكثر من العلم، كما أن كلفة تعليم الأولاد الثلاثة حِملٌ لا طاقة له به وسيُرهقه، لذلك يدفع بالأولاد إلى العمل لأنها «أفضل من السرقة» بحسب قوله. يوزّع فيصل أبناءه الثلاثة على أماكن متعددة بين منطقتي جونية والروشة، لافتاً إلى أن أصغرهم يجني يومياً مبلغاً يتراوح بين 50 ألف ليرة و100 ألف. يتحدّث الوالد عن وجود منافسة كبيرة في الأسواق هذه الأيام، فـ«المناطق أصبحت مليئة ببائعي الورود المنتشرين أمام المقاهي والملاهي الليلية»، كما يدّعي فيصل أن أولاده «لا يتذمّرون من العمل لأنهم اعتادوا عليه»، لكنه رغم ذلك يؤكد أنهم يفضّلون الاعتزال.
الاعتزاز الذي يظهره فيصل أثناء حديثه عن عمل أولاده، لا يمكنه أن يخفي غصّة يحاول أن يكتمها في حلقه عبثاً، فقد توفّي أحد أبنائه في منطقة جونية أخيراً بعدما صدمته سيارة على الطريق السريع أثناء بيعه الورود في تلك المنطقة. يشار إلى أن منزل فيصل لا يُظهر أبداً أنه محتاج، كما أنه يملك رقمَي هاتف. كما يملك فيصل منزلاً في برج البراجنة، وهو متزوّج من امرأتين إحداهما مقيمة في سوريا برفقة أولادها. أما الزوجة الثانية فتُقيم معه في لبنان.
صدمت السيارة الابن الأصغر على الطريق السريع وهو يبيع الورود وما زال الأب يشغّل الأبناء الآخرين
حالة فيصل تمثّل واقعاً قائماً بذاته، ينسحب على عدد غير قليل من العائلات، لكن هذا المشهد يمثّل جزءاً بسيطاً من خلية التسوّل التي تتشعّب لتبلغ حدّاً لا يمكن تصوّره. فهناك أيادٍ مشبوهة تمثّل المسار اليومي لهذه الظاهرة المتنامية. تتسلل مع خيوط أشعة الشمس الأولى بعد أن تنتهي من توضيب «البضاعة». توزّعهم توزيعاً مدروساً على مفترقات الطرق والساحات. إنهم بضائع بشرية صالحة للاستثمار. أطفال وصبية تتراوح أعمارهم بين الثالثة والثالثة عشرة. يُوزّعون على مواقعهم، فيقضون النهار كلّه في التنقّل بين سيّارة وأخرى. يستجدون المال والطعام والملابس من المارّة. بعضهم يعتمد التسوّل المقَنّع تحت مسمّى التجارة. يبيعون المظلات في الشتاء والمياه الباردة في الصيف. كما يتاجرون بماركات مقلدة لزجاجات العطور المعروفة، وبالورود والعلكة وأوراق اليانصيب واللوتو. يصطفون يوم الجمعة أمام المسجد للتسول وبيع المسابح. أما يوم الأحد، فينتشرون حول الكنائس ليبيعوا الشموع وصور القديسين. وفي أيام الأسبوع الباقية، يعودون لعملهم المعتاد مردّدين عبارات حفظوها عن ظهر قلب دون أن يفهموا معانيها. يقبلون منك أي شيء. تقرأ في عيني كل منهم عذاباً أو التماساً لشفقة. إذا أعطيتهم رفعوا صوتهم بالدعاء لك، وإن نهرتهم تمتموا بعبارات غير مسموعة وهم يرحلون، لكن النظرة المليئة بالتحدّي التي يرمقونك بها، كفيلة بأن تُفهمك أن ما تلفّظوا به كان شتيمة.
ينتهي نهار بعض المتسوّلين الصغار الطويل مع غروب الشمس ليتم تجميعهم، كما في الصباح، لإعادتهم مجدداً إلى مكان مبيتهم. لكن يبقى قسم منهم، ليُنقل إلى أماكن السهر حيث يعمل في التسوّل وبيع الورود للساهرين والساهرات، فيراكم المتسوّل الصغير مع كل وردة يبيعها، الأموال للمستثمر الذي يشغّله، تتزايد ثروة المستثمر، إذ إن المتسول محروم عادة من يوم عطلة. وفي هذا الإطار، يقول مسؤول أمني رفيع لـ«الأخبار» إن مجموع ما يجنيه المتسوّل الصغير يتخطى 150 ألف ليرة لبنانية يومياً. ويضيف المسؤول المذكور متهكّماً: «كيف ستُقنع من يجني هكذا مبلغ بأن يعود إلى المدرسة».
مسيرة عيني المتسوّل الصغير صارت روتيناً يومياً تحوّلت بفعل الوقت إلى خبرة. فهاتان العينان تقضيان نهارهما في البحث عن طريدة. بعضها يختار عشوائياً، لكن عملية الرصد لدى البعض الآخر، المتمرّس منها تحديداً، صار احترافاً. فهؤلاء يأخذون في الاعتبار نوع السيارة وهيئة الموجودين فيها، حتى أنّ بعضهم لا يقترب من أصحاب السيّارات العمومية إذا كانت فارغة من الركّاب، لأنهم يعلمون مسبقاً بأن السائق لن يدفع لهم. وبالطبع، يحصل ذلك كلّه أمام أعين شرطي المرور ومختلف دوريات قطعات قوى الأمن الداخلي.

مشهد ميداني

يذكر مسؤول أمني أن مجموع ما يجنيه المتسوّل الصغير يتخطى 150 ألف ليرة لبنانية يومياً
«جوعان أعطيني حق منقوشة» يقول أحدهم وهو يرسم نظرة حزينة على وجهه. للوهلة الأولى يبدو مريضاً، ونظرته السارحة الضائعة تستوقف العديدين لإعطائه المال. لكن كسب استعطاف الناس، طمعاً بالمال، الذي يمارسه هذا المتسوّل الصغير ينفضح إن جلست دقائق إضافية لتراقبه، إذ يتضح لك أنه الأسرع والأقوى عندما يتشاجر مع زملائه في المهنة، وربّما إخوته... من يدري؟
لقد أصبح المشهد المذكور أعلاه روتيناً يومياً، يستحيل ألا يراه لبناني كل يوم عند توجّهه إلى عمله وعند عودته منه. من يراقب هؤلاء المتسولين يلاحظ أنهم مقسّمون إلى مجموعات، يراقب بعضها دوريات الأمن، ليُعلم زملاءه في حال قدوم رجال الشرطة، فيتوارون عن الأنظار. وبعض هؤلاء يمسح زجاج السيارات، ويتسول البعض الآخر حاملاً بيده عقود الياسمين.
لا يلبث أن يتوقف السير حتى يتحلق عشرات المتسولين الصغار حول سيارتك. تحاول أن تمارس دور التحري لتعثر على العقل المدبّر الذي يقف وراء هؤلاء الذين يُنقلون بالسيارات من شمال لبنان، لنشرهم في الشوارع لطلب المال. لكن عبثاً تحاول، إذ إن التعليمات واضحة والمراقب يرصد من بعيد. فإن حاولت التقاط الصور لهم، فسيسارعون إلى الهرب وكأن تنبيهاً قد أعطي لهم. وإذا صودف وجود المراقب بالقرب منك، فإنه سيسارع إلى التدخّل بطريقة عدائية. أمّا المتابعة الدقيقة لتحرّكات هؤلاء المتسوّلين الصغار، فتوصلك إلى منظّم عملية التسوّل الذي يستثمر الأطفال، وفي كثير من الأحيان يكون أباً ألقى بأولاده في الشارع ليعيش من عرق جبينهم. لكن ليس من الضرورة أن يكون العقل المنظّم لعملية التسوّل هو الوالد، فأحياناً يكون رجلاً قاسياً يشغّل هؤلاء الأولاد بالقوّة.

من السجن إلى حريّة الطرق

ألقت القوى الأمنية القبض على مشتبه فيه يشغّل الأولاد في التسوّل، بعدما تبين أن الأخير اعتدى بالضرب المبرح على طفل يعمل لديه لأن غلّته من التسوّل كانت قليلة
التسوّل طريق بديلة من العمل من أجل العيش، يلجأ إليها بعض من هو محتاج بالفعل، كما يلجأ إليها من يرغب بالحصول على المال دون إعطاء أي جهد. ورغم أن القانون يعتبر أن التسوّل جريمة تجب معاقبة مرتكبيها، إلا أن التساهل في ملاحقة هذه الظاهرة المخالفة للقانون يساهم في تناميها. كما يشار إلى أن أعداد المتسوّلين الذين يسرحون دونما حسيب أو رقيب تزداد كثيراً. ويترافق هذا الازدياد مع تكاثر أسئلة الاستفهام المطروحة حيال أداء أجهزة الدولة. وفي هذا السياق، تطرح المحامية دارين حيدر عدداً من علامات التعجّب، متسائلة عن سبب «إرخاء الطوق» عن أعناق العصابات التي تتاجر بهؤلاء الأطفال. وترى المحامية حيدر أن هؤلاء الأولاد «غالباً ما يتحوّلون بمعظمهم إلى أدوات لتسهيل الإتجار بالمخدرات والدعارة وسائر صور الإفساد الاجتماعي». لكن حيدر التي تتّهم الدولة بالتقصير ترى أن المشكلة تكمن في «عدم تنفيذ نصوص قانون العقوبات والقانون 422 المتعلق بالأحداث وكذلك في عدم القيام بكل ما يلزم لتطبيقه كاملاً». تضيف المحامية دارين حيدر أن المسؤولية في ذلك «تقع على عاتق أجهزة الدولة»، منها وزارة الداخلية التي ترى أنه مطلوب منها اتّخاذ كل الإجراءات لمكافحة هذه الظاهرة ــــ الجريمة، وتلفت حيدر إلى أن المكافحة أيضاً «تقع على عاتق وزارة العدل ووزارة الشؤون الاجتماعية».
تشير المحامية دارين حيدر إلى أن الأشخاص دون الثامنة عشرة من العمر، يطبق عليهم قانون حماية الأحداث (المخالفين للقانون أو المعرضين للخطر) الرقم 422 الصادر في 6/6/2002، وقد نصّ في مادتيه الأولى والثانية على معاملة خاصة للأحداث لجهة مراعاة حماية الحدث وضرورة معاملته بإنسانية، كما أن المادة الثالثة من القانون نفسه نصّت على أنه لا يلاحق جزائياً من لم يتم السابعة من عمره حين اقترافه الجرم.
كذلك يعتبر القانون نفسه في الباب الثالث منه (المادة 25) أن الحدث يعتبر مهدداً إذا وجد متسولاً أو مشرداً (بند 3). وانطلاقاً من هذا النص يبقى عمل الأحداث (دون السابعة من العمر) خارج إطار الملاحقة الجزائية ويؤدي إلى استمرار استغلالهم. وتؤكّد المحامية حيدر ضرورة التشدد في ملاحقة من يستغلّ هؤلاء، وتطبيق العقوبات بحقهم.
مقابل الأصوات التي تنادي الدولة بالقيام بواجبها، يبرز صوت ضابط في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي يرى أن المشكلة اجتماعية في الأساس، ويشير الضابط المذكور إلى «أن عناصر قوى الأمن كانوا يلقون القبض على المتسوّلين»، لكنه يشير إلى أن المشكلة تكمن في المكان الذي يُفترض أن يُحتجز فيه هؤلاء الأحداث، والتي كانت تمثّل عائقاً أمام القوى الأمنية. ويروي المسؤول نفسه أن عناصره ألقوا القبض على أحد المتسوّلين الصغار ذات مرة، لافتاً إلى أنه «غير مسموح باحتجاز المتسوّل القاصر مع البالغين، لذلك أطلقنا سراحه بعد ثلاث ساعات». ويذكر الضابط متهكّماً «لقد استجدى المتسوّل الصغير مالاً من العنصر المكلّف بالحراسة».
تترافق المشكلة الأمنية مع مشكلة أخرى تواجه القضاة خلال حكمهم على المتسوّلين أو على أولئك الذين يدفعونهم للتسول، وهي عدم وجود دار التشغيل التي نص عليها القانون، والتي من الممكن أن يستفيد منها الفقراء من المتشردين والمتسولين الذين يجرّمهم القانون.
عن الحلول المفترضة، يشير مسؤول قضائي إلى أنها تبدأ بإنشاء دار للتشغيل لوضع هؤلاء الأولاد فيه بالتزامن مع تطبيق نصوص القانون اللبناني الذي يجرّم التسوّل، فتكون ملاحقة واعتقال أفراد العصابات الكبيرة التي تتاجر بهؤلاء المتسوّلين الصغار هي خطوة أخرى على درب حل هذه المشكلة المتفاقمة. كما تجب معاقبة الأهل الذين يعاملون أولادهم كالعبيد ويستثمرون تعبهم. وعلمت «الأخبار» أن القوى الأمنية تمكنت من إلقاء القبض على مشتبه فيه بتشغيل أربعة أطفال بعد عملية رصد ومتابعة لتحرّكه. فقد تبين أنه ينقل الأطفال من إحدى المناطق في الشمال إلى بيروت حيث يجبرهم على التسوّل، ومن ثم يعيدهم بعد أن ينتهي نهار العمل. وتوصّلت القوى الأمنية إلى معرفة تفاصيل العملية، بعدما أوقفت صبياً لم يتخطّ السابعة كان قد تعرّض للضرب المبرّح على يدي الرجل الذي يشغّله لأن المردود المالي الذي عاد به في نهاية النهار كان قليلاً.
لبنان سوق مزدهر للتسوّل. ضحاياه وأبطاله هم الأطفال والمراهقون الذين يتعرّضون للاستغلال في هاتين المرحلتين، فيهيأون بذلك ليكونوا مشاريع مجرمين في مرحلة الشباب، عندما يفقدون القدرة على استخدام براءتهم لاستعطاف المحسنين، فلا يجدون وسيلة لكسب القوت إلا سبيل الجريمة.