من بين كل النصوص المحتفية بيوم الأرض، ارتأرت معلمة لبنانية أن تمتحن تلامذتها في الصف السادس بنص كتبه طفل إسرائيلي يتغنّى بأرض اغتصبها أجداده: يحدث ذلك في لبنان
أحمد محسن
رأينا كل شيء على التلفاز. لم نعد بحاجة إلى شرحٍ لنعرف أحوال المرفأ المسمّى أسدود. مرفأ معاد يعجُ بالعسكر على أرض محتلة. لكن، وفقاً للنص الذي قُدّم إلى طلاب المدرسة الأنطونية الدولية في عجلتون، قبل شهرين، فإن أسدود مرفق سياحي. النص، كما يخاطب طلاب الصف السادس إنكليزي، سياحيٌّ ودعائيٌّ بامتياز. تجدر الإشارة إلى أن النص ليس صادراً عن وزارة السياحة الإسرائيلية. إليكم الترجمة الحرفية للأسطر الأولى كما وردت خطياً في الامتحان:
«اسمي دافيد تاغور. أنا من إسرائيل. بلدي صغير لكنه جميلٌ جداً. أنا أعيش في أسدود. أنا فخور بأني أعيش هنا، لأن أسدود ليست ملوّثة. إنها مدينة كبيرة وعصرية. يعيش فيها 200 ألف شخص. أسدود على مقربة من البحر، ورغم ذلك هناك رياح. وفيها مرفأ مهم جداً ». هنا، لا بد من التوقف عن القراءة قليلاً. ثمة مكان للصدمة. الاستغراب ليس كافياً. الطفل الإسرائيلي يتحدث عن مكان ترعرع فيه، لا يمكنه اعتباره إلا وطناً. المشكلة الحقيقية هنا في لبنان، إذ إن أسدود في وضعها الحالي تُقدَّم للطلاب باعتبارها مدينة شرعية، موجودة على خريطة العالم طبيعياً، لا بل يُسهب النص في الدعاية لها، وللمرفأ الموجود فيها خصوصاً.
اقتبست المعلمة اللبنانية النص حرفياً من موقع تربوي إسرائيليّ رسميّ
تبرز مفارقة لافتة. كأن الإسرائيليين كانوا يعرفون أن ثمة سفناً آتية وأن مرفأ أسدود سيكون القفص المناسب لقتل أي أمل فلسطيني بالحصول على الغذاء. وما دخل الإسرائيليين؟ مفاجأة أخرى أيضاً. النص، بحرفيته، يرد على الموقع الرسمي لوزارة التربية الإسرائيلية - المنطقة الجنوبية. وفي هذه الحالة، لا يعود القارئ بحاجةٍ إلى مجهود استثنائي ليكتشف فظاعة الاقتباس الحاصل. «أنا تلميذ في الصف السادس. اسم مدرستي هو هازون ياكوف. لديّ 400 زميل في هذه المدرسة. المدرسة ليست كبيرة. هناك أشجار طويلة وورود ملونة تحيط بمدرستي». يتابع النص. طبعاً، بعض المعلومات صائبة. من المعروف أن فلسطين تحظى بكثرة الأشجار وتنوّع الورود. لكنها، من وجهة نظر تربوية ـــــ لبنانية، قُدّمت إلى الطلاب باعتبارها «إسرائيل». الكارثة لا تتوقف هنا. التفاصيل مرعبة. فالمعلمة لم تتكبّد حتى عناء نزع «اللوغو» الذي رافق النص الأصلي المقتبس عن الموقع الإسرائيلي الرسمي، كان لمناسبة «يوم الأرض». هو اليوم الذي حدد في 22 نيسان من كل عام، ويحتفل فيه العالم بأنشطة بيئية متعددة، لرفع مستوى الوعي البيئي عند سكان الكوكب. وللمناسبة، يوم الأرض الفلسطيني لا يبعد كثيراً، إذ يصادف يوم الثلاثين من آذار في كل عام، منذ عام 1976 حين صادرت السلطات الإسرائيلية مئات آلاف الدونمات الجديدة من الأراضي الفلسطينية الخاصة، إضافة إلى أخرى تعدّ مشاعاً في نطاق حدود مناطق ذات أغلبية سكانية فلسطينية مطلقة، وخصوصاً في منطقة الجليل الأعلى (شمال فلسطين المحتلة). آنذاك، قرر عرب الداخل (فلسطينيّو الـ48) إعلان الإضراب الشامل. كان ذلك أولّ تحدٍ للإسرائيليين عقب احتلالهم فلسطين عام 1948. كان الرد الإسرائيلي صاعقاً كالعادة، معززاً بالدبابات والموت، إذ دخلت قوات مؤللة من الجيش الإسرائيلي إلى القرى الفلسطينية لتتابع نهج الاحتلال والاستيطان. سقط شهداء وجرحى بالعشرات ودمرّت المنازل. وبعد الدماء الجديدة، صار ذلك يوماً للأرض، يحتفل فيه الفلسطينيون سنوياً، إحياءً لحقّهم في العودة إلى بيوت طُردوا منها. واليوم، في عجلتون، في مدرسة لبنانية، يدرس التلامذة اللبنانيون نصاً اختارته المعلمة الإسرائيلية فيكتوريا براخمان، يهدف إلى تطويب أسدود وإعلانها مدينة سياحية نموذجية. في يوم الأرض البيئي، كان ممكناً أن يكون النص المدرسي عن نابولي في إيطاليا، أو كاليفورنيا في أميركا، أو عن محميّة الأرز مثلاً! فما الذي حصل فعلاً ليقع الاختيار على المكان الخطأ الوحيد في الكون؟
بعد أخذ وردّ مع إدارة المدرسة الأنطونية الدولية، أكد مدير المدرسة الأب أندريه ضاهر مسؤوليته عن هذه «الهفوة غير المقصودة». وسرد ضاهر سلسلة من التبريرات والتوضيحات. في البداية «كان النص للتوعية البيئية»، إضافة ذلك «يمكن أن يكون قد حصل خطأ في الاقتباس نظراً إلى سهولة الحصول على المعلومات الإلكترونية اليوم، في ضوء عولمة وسائل الاتصالات». حتى الآن، بدا ضاهر مرتبكاً ونادماً على وقوع مدرسته في «هفوة» كهذه. فهو لم يصدّق جدية الأمر حين أطلعناه عليه. لكنه عاد وأعلن تحمّله للمسؤولية، مؤكداً أن المعلمة نادين كرم (حاولنا الاتصال بها أكثر من مرة فلم تجب) التي اختارت النص، لا تقصد شيئاً مسيئاً. وفي الإطار ذاته، أكد الأب ضاهر، عضو لجنة التربية الوطنية لصياغة المناهج أيضاً، أن المدرسة «معروفة بالاختلاط الطائفي فيها»، واستدرك ليكرر أن حدوث الأمر غير مقصود، «وخصوصاً مع دولة معادية كإسرائيل». ولفت ضاهر إلى أنه اختبر ردّ فعل طلابه فور علمه بالأمر، وأجرى دراسة خلصت نتائجها إلى أنهم لم يتأثروا دعائياً بالنص.
المؤكد في الأمر أن التلامذة عادوا وسمعوا بأسدود لاحقاً. فإذا سقطت صفة العداوة لإسرائيل «سهواً»، من بعض المناهج التربوية اللبنانية، فإن القنوات الفضائية ـــــ بمعزلٍ عن سيّئاتها وحسناتها ـــــ فضحت حقيقة ما يجري في أسدود اليوم.


المدينة الخامسة

إسدود هي مدينة ساحلية فلسطينية تقع على البحر الأبيض المتوسط، شمالي مدينة المجدل، بناها الكنعانيون الذين سكنوا فلسطين في عام 3000 قبل الميلاد. احتلتها القوات الإسرائيلية ضمن المدن التي احتلتها في 1948، لتؤسس فيها مدينة يهودية إسرائيلية مساحتها 60 كلم2، فيما هاجر معظم السكان العرب منها إلى مناطق أخرى مثل غزة. ويفوق عدد سكانها 200 ألف نسمة، وتصنّف جغرافياً الخامسة من بين أكبر مدن «إسرائيل».