أنسي الحاج

صحافة (3)
تُطرح مشكلة الصحافة من زاوية تقدّم الجرائد الورقيّة أو تراجعها، وننسى أن الجريدة، في الغالب، أصبحت مزدوجة: وَرَقيّة وإلكترونيّة، وإذا كان الجيل الجديد يفضّل الإنترنت، فلا أحد يستطيع الجزم بصورة المستقبل. ربّما، حين يصبح شباب اليوم كهول الغد وشيوخه، ينشأ فيهم حنين إلى الورق. الحنين شباب ثانٍ. والورق قابل للامتلاك كالذخيرة، وفيه روائح الشجر.
أمّا تأثير التلفزيون على صحافة الورق فإلى مزيدٍ من ترسيم الحدود: للشاشة فوريّة التغطية الإخباريّة وجاذب الحركة وحيويّة الصوت، وللورق، فضلاً عن توثيق الخبر، الرأي الصافي من صميم هدوئه. ولا ننسَ المجال المتاح على وسعه في الجريدة أو المجلة الورقيّة للتنقيب والغوص على الخبر في تفاصيل وكواليس وأسرار وربما فضائح قلّما يتاح للشاشة الإخبارية أن تغوص فيها. ما عدا الفضائيات الوثائقيّة، وهذه لا منافسة بينها وبين الجرائد، لأن وتيرتها بحكم ظروفها بطيئة أقرب ما تكون إلى الكتاب.
لن تُعْدَم الصحف الورقيّة تشويقاً إخباريّاً، مهما تباعد فرق الجاذب بينها وبين التلفزيون. وفي بعض الأسواق، كالفرنسيّة، نشهد بين المجلّات الأسبوعيّة السياسيّة ظاهرة تتمثّل في اطراد ارتفاع المبيع. والكتب نفسها يزدهر هناك مبيعها بصرف النظر عن قيمتها الأدبيّة. والأمر ذاته بل أكثر في الولايات المتحدة. لا شكّ في وجود أزمة اقتصاديّة حادة ناشئة بالأخص عن التباين بين الكلفة والمدخول، وبعض الصحف كلّما تزايد انتشارها تفاقمت خسارتها، وهذا سابق للإنترنت، ومن أسبابه ارتفاع دائم في أسعار الورق واحتكار التلفزيون لمعظم الإعلانات التجاريّة. لكن الصحافة المكتوبة المقروءة، بأي وسيلة كانت، لا تزال والأرجح أنها ستبقى حاجة للذهن ولو خيّبته بعض الأحيان.
الشاشة، مهما ارتقت وتطوّرت، تظلّ، على الأقلّ في المدى المحسوب للتوقّعات، نظير كتب المقامات قياساً بالأدب، وحصاناً جامحاً لا يسلس قياده إلّا لفرسان اللسان والصوت. إنّها المنبر الخطابي في صورته الحديثة. هذا لا يلغي الاستثناءات. ثمّة توثيقيّون ومعلّقون ومحاورون في التلفزيون أبعد غوراً وأعمق سَبْراً وأبدع تلميحاً من أيّ كاتب. وهذا أيضاً لا يعني أن الشاشة تُجافي كليّاً صفاء الرأي بل يعني أن طبيعتها الاستعراضيّة الصوتيّة ليست الأداة الأنسب لإيصال الفكرة بتمام أصالتها ولا المقام المؤاتي للتأمّل المتجرّد وهدوء التبصّر.
■ ■ ■
حاولت الصحافة الورقيّة أن تجاري التلفزيون في بداياته فزادت مساحات الصورة وضاعفت عَقْد الندوات والمقابلات وركّز بعضها على الإثارة، وخصوصاً في العناوين الرئيسيّة. وسرعان ما تبيّن لها بطلان هذه المنافسة وراحت خسائرها الماليّة تتفاقم. اليوم عادت الصحافة، على مستوى العالم كلّه، تكتشف أن دورها الأساسي والذي لا مُزاحم لها فيه هو التنوير الفكري والنقد، ومعهما أَلمعيّة الكتابة، الكتابة الموجَّهة إلى العين والعقل، دون مُعين غير أسلوبها ومضمونها.
يفترض استرجاعُ هذا الدور إعادة ربط الصحافة والصحافي بجذورهما، عهد كانت الصحافة مدرسة للمعارف وموكباً للمواهب ومسرحاً لسجال الأحرار. كانت الصحافة ويجب أن تعود بحر الاستكشاف المعرفي، المَرْجع التأريخي اليومي ونقد معطيات هذا التاريخ، والأرض التي تشرق عليها دون كسوف شمس النزاهة والشجاعة.
شبّه أحدهم الصحافة بأنها الكلمة في حالة الصاعقة وأنها الكهرباء الاجتماعيّة. وقال آخر أقلّ ودّاً: «لو لم تكن الصحافة موجودة لوجب عدم اختراعها». حتّى غُلاة دعاتها يحتفظون بحذرٍ حيالها. فما بين مدرسة التثقيف وإرهاف الوعي وحسّ النقد التي يُرجى أن تكونها الجريدة، وبين انحرافها عن هذه إلى عكسها، فارق لطالما اجتازته صحف كثيرة. فإذا كان نداء الضمير حارّاً فمغريات الفساد أشدّ جذباً. والتاريخ ينطوي على أسماء صحافيّين كبار سقطوا في التجربة الأخلاقيّة.
■ ■ ■
القرن التاسع عشر عرف في مناطق السلطة العثمانيّة جرائد تابعة علناً للدولة تنطق باسمها وتنشر فرماناتها، كما شهد تأسيس صحف فرديّة في طليعتها ما أنشأه لبنانيون وسوريّون في بيروت والقاهرة وأوروبا. ورغم إقامة أحمد فارس الشدياق حقبة طويلة في الآستانة احتفظ بمسافة بينه وبين الباب العالي، وزيادة في الاحتياط سعى إلى الجنسية البريطانيّة وحصل عليها معتبراً إيّاها درعاً للوقاية من طغيان السلطان. والإنعام عليه بالجنسيّة البريطانية لم يرتهنه، ولا منعه من حريّة القول ضد الإنكليز لا كطباع وعادات فحسب بل كلغة أيضاً. وذهب في انتقاده لهم إلى حدود تُعتبر اليوم عنصريّة. ولكن ليس هذا موضوعنا بل استقلاليّة الصحافي.
الأمر نفسه ينسحب على المعلم بطرس البستاني وسواه من رجال النهضة. على سبيل المثال: حمل البستاني مشعل العروبة في عزّ التتريك، لا لجمته مارونيّته (قبل اعتناقه البروتستنتيّة) ولا أرهبته أشباح السلطنة، ولا زعزعت صلابة عروبته صور مجازر 1860 الطائفيّة التي امتدّت من لبنان إلى دمشق، بل زادته إصراراً على العلمنة. يجب أن نضع أنفسنا في جوّ تلك الأيام لنقدّر شجاعة أمثال أولئك الصحافيّين الروّاد ولنقيس مدى الانحدار الذي بلغته صحافة العهود الأخيرة حين توزّعت ما بين النَفْطين، نفط «الرجعيّة» ونفط «التقدميّة»، ثم ما بين الطائفتين، فما بين الشعبين، ثم ما بين الشعبين الآخرين، فضلاً عن أجهزة الاستخبارات... والمحسنين.
■ ■ ■
لا يُخشى على مستقبل الصحافة إن هي ركّزت، بالإضافة إلى ما لا يتّسع له التلفزيون من بواطن الخبر وأبعاده، على التحليل والتكهّن، على الرأي، على «الكتابة». إنّ مَن يشتري الجريدة يشتريها ليقرأ لا ليسمع ولا ليشاهد. لا بدّ أن تعود الجريدة مدرسة للحكّام والمحكومين على السواء. واليوم أكثر من أمس مفروض في الصحافي، إلى جانب الطهارة، أن يجمع إحاطة العلّامة إلى بصيرة الفيلسوف، على بساطة تعبير هي من شيم المعلّمين التاريخيّة.
ليس أمام الصحافة إلّا خيارٌ واحد هو أن تعود كتاباً يوميّاً، أو إذا أردنا مجلّة يوميّة، مجلّة بفصولٍ مختلفة تنتظمها الحيويّة وتقودها الأمانة على القاعدة المثلّثة العَظَمة: الجدارة والترسُّل والحريّة.
ولا حاجة للبحث في خيار آخر، فليس هناك خيار آخر غير الزوال... أو انحسار فائدة الجريدة إلى صفحة الوفيّات.


الطفل والعُقاب
ما جدوى الاقتناع بأن العالم للأقوياء ما دمتَ من الضعفاء؟ لمَ ازدراء الشفقة والانبهار بالجبروت ما دامت أرقى لحظات حياتكَ، لو تواضَعْتَ، كانت بإلهام الشفقة مكسورةً كانت الشفقة أو كاسرة فلا يتبقّى منها غيرُ نقيضها، غير السخط حتّى الجموح الدموي، كتلك الانفعالات التي أثارتها صورة الطفل السوداني الزاحف إلى كومة نفايات ليأكل أيّ شيء بينما العُقاب المرعب رابض وراءه على أمتار يحسب له الثواني قبل أن ينقضّ عليه، هذه الصورة التي انتحر ملتقطها بعد ثلاثة أشهر لأنه لم يعد يستطيع أن ينام، هذه الصورة تُقيم الموتى من قبورهم ثورةً على الأحياء، وتدعو إلى العويل والغضب، وإلى قتل جميع الطغاة، سفّاكي دماء أو مصّاصي دماء، بلا قانون ولا قضاء، بل بعدالة الثأر للأطفال.
يجب أن لا ننسى هذه الصورة حتّى لا ننسى أن قصّتها تتكرّر كلّ ثانية ولا أحد يعرف أرقام تكرارها.
أربع ثورات لم تحصل بعد في التاريخ المعروف: المرأة، العمر الثالث، الطفل، والحيوانات.
يضعف الرجل أكثر فأكثر لكنّ مسحوقيه الأربعة لم يستوفوا من حقوقهم شيئاً، إلّا شكليّات أعطيت للمرأة مقابل إفقادها ما هو أهمّ. يضعف الرجل ويواصل تكييف الأشياء وفق ضعفه. هل يكون، في النهاية، هو الإله المسخَّرة له الدنيا ولا أمل في إعتاق ضحاياه؟
هل تكون المرأة، كما تصفها التوراة، مجرّد ضلع منه؟ والحيوانات عبدة لهما؟ والطفل والعجوز معاقان إلى أن يجتاز الأول امتحانات «التأهيل» ويموت الآخر؟ إذاً صحيح يجب البكاء على الناس عند ولادتهم لا عند موتهم.


وجه
الجوكوندا لا تختصر الجمال لكنّها تهمس لكلّ ناظرٍ بشيءٍ خاص. قبسٌ من الشغف الذي عَلَّق قلب ليوناردو بالمونا ليزا وجعله لا يرتوي من رؤيتها، يطيل أمد التصوير ليطيل آماد اللقاء ويطيل آماد اللقاء على أمل اكتناه ذلك السرّ الذي فَتَنه في الوجه الهادئ.
ولم يتوصّل إلى السرّ، لكنّه بَلْوَرَ مظهره، وسَمَحَ لنا بأن نُقدّر، يوماً بعد يوم، تأمّلاً في أثر تأمُّل، حَرْقَته منه وتعبّده لأعجوبته.
لقد وضع ذلك الوجهَ الساحر في إطارٍ طبيعي من النضارة الدائمة، أو في إطارٍ من الديمومة الطبيعيّة. وجهٌ غامض يُراسل غموضَ مشاعرك. وجهٌ يتأمّلك أكثر ممّا تتأمّله.
أيقونة شخصيّة وكونيّة للأمل.