أنسي الحاجحصل ويحصل وسيحصل
بقراءة كتب التاريخ عن الموارنة، ومنذ بداياتهم في سوريا ثم انتقالهم إلى لبنان، يستوقفنا شغفهم بالحريّة شغفاً انطبع به الكيان اللبناني بجميع مكوّناته. اليوم باتت الطوائف الإسلاميّة تسابق الموارنة في التمسّك بالهويّة اللبنانية، ولو بدا أن بعض هذه الطوائف، كشيعة «حزب الله»، تميل مع الهوى الإيراني. تُعزّي سوابق انتهت على خير: جنوح الموارنة مع الهوى الفرنسي والأرثوذكس مع الهوى الروسي وقبله البيزنطي والسنّة مع الهوى العثماني فالسوري فالمصري فالفلسطيني فالسعودي إلى أن عمّدهم دم الحريري معموديّة لبنانيّة لم يكن يتخيّلها أحد.
الجرح في الشغف الماروني التاريخي بالحريّة هو استعمال الدول والمصالح لهذا الشغف. لقد دفع الموارنة من دمهم ورزقهم ومعنويّاتهم ثمن صراع الأقوياء في المنطقة المحيطة بلبنان، من عهد الجراجمة ومعاوية وخلفائه وقسطنطين إلى اليوم، تارةً يستعملهم العرب لكسر الروم وطوراً الروم لكسر العرب، ثم ينتهي الأمر بتآمر العرب والروم عليهم. والأفظع حين كانت القوى، من أقربها جغرافيّاً إلى الأكثر بعداً، تستعمل أقليّتين كلّ منهما متمسّكة بخصائصها وهويّتها، كالموارنة والدروز، وتفتن بينهما في عقر دار تعايشهما.
حصل هذا ويحصل وسيحصل. اللّا أخلاق الدوليّة محرّك تاريخي ثابت، والأقليّات دوماً وقود وذريعة. اليهود لم يشذّوا عن القاعدة، مع فرق هو أنّهم بدورهم استعملوا الحجّة المعاكسة: الأقليّة المضطهَدَة تستغلّ تناقضات الأكثريّات لتضربها بعضها ببعض. وما أكثر التناقضات في المجتمعات المسيحيّة، مثلاً، وما أكثر قابليّتها، بحكم روح دينها، للشعور بالذنب. ولا تشكو المجتمعات الإسلاميّة نقصاً في تناقضاتها، وإنْ اقتصرَ استغلالها حتّى الآن على الاستراتيجيات السياسيّة والاقتصاديّة ولم يصل إلى حدّ مطاردتها دينيّاً مطاردةَ غسل دماغ منهجيّ كما تفعل، مثلاً، السينما الغربيّة بالكنيسة الكاثوليكيّة.
يكرّر التاريخ نفسه اليوم مع تغيير في أسماء الطوائف. محلّ الموارنة والدروز، الشيعة والسنّة، وبدل السلطنة العثمانيّة، الغرب وزعيمته الولايات المتحدة، ومكان بريطانيا ودسائسها إسرائيل ودسائسها. تبقى دمشق هي دمشق، تارةً معاوية ويوحنّا الدمشقي وطوراً معاوية وعبد القادر الجزائري. وشعرة معاوية ثابتة على الزمن وعاصية على المقصّات.



جنس
في الفصل الخاص بالروائي الفرنسي الخلاعي أندريا دو نرسيا (القرن الثامن عشر) من كتابه «تاريخ الأدب الإيروتيكي» (باريس، منشورات بايو، 1989)، يورد الباحث والأديب الكبير ساران ألكسندريان الحوار التالي بين الرجل «بريكون» والماركيزة، في رواية «الجسد الملتهب» لنرسيا: «لقد سقطت الأفكار المسبقة... أشدّ الناس محافظةً أصبحوا يحلّلون لأنفسهم كلّ شيء»، فتجيبه الماركيزة: «ما دمنا نمتنع عمّا يُقْرِف، أهلاً وسهلاً».
خلافاً للماركي دو ساد، يخلو عالم نرسيا من الفظاظة والقسوة، فلا جَلْد ولا قَتْل، وتنحصر الرذيلة في الحرقصة دون أذى.
نحن هنا بعيدون عن الغلوّ الدراماتيكي، خارج عالم «الإرهاب الإيروتيكي» كما يعبّر ألكسندريان في عنوان فصله عن ساد. صور المشاهد الخلاعيّة نفسها مضبوطة داخل نظام هو أقرب إلى بلاغة جمود نابض، منه إلى الاحتفالات الباخوسيّة الفاجرة، وعندما يصف نرسيا نشوةَ امرأة لا يتحدّث عن صراخٍ وعربدة بل عن تفاصيل دقيقة لا تلحظها إلّا عين الخبير.
عند المفاضلة بين سلوك جنسيّ يبني تميّزه على غرابات غير مؤذية وآخر قائم على التعذيب والتضحية بالآخر وصولاً أحياناً إلى القتل لا ريب في اختيار الأول. الثاني قد يُحتمل على الورق لكنّه قطعاً مرفوض في الممارسة الواقعيّة. ساد نفسه يقال إنه في الحياة الواقعيّة كان على الأغلب لطيفاً ولم يَقتل ويُفظّع إلّا على الورق وخاصّة حين اختلَّ ما بقي من توازنه العصبي بسبب تمضيته أكثر من ربع قرن داخل السجون وهو الشخص الذي ينطوي عالمه الكتابي على شغفٍ بالحريّة لم يبلغ مداه أحد. وعندما نضع الأهوال الإجراميّة (التي هي في الواقع مضحكة أكثر ممّا هي مرعبة) في إطارها الحقيقي، أي الإطار الرمزي، ونُعيد الخيالات الدمويّة إلى أصلها وهو الذهن والذهن وحده، وتوتّر العصب الذهني على قَدْر توقه اللانهائي إلى اختراق الحدود، يبدو ساد أقلّ جنسيّة من جميع أقرانه في الكتابة الإيروتيكيّة، وكلّ النساء عنده امرأتان: الضحيّة (جوستين) والجلّادة (شقيقتها جولييت) وكلّ الرجال عنده «بنات» ذهنه الذي يطير ويحلّق ولا يتنفّس إلّا بمواصلة التحليق، يَسْكر بالهواء وبهواء الهواء ويتعطّش إلى أكثر، والأكثر ليس هو عَيش العربدة بل عربدةُ الفكر، عربدةٌ تُفتّق الأزرار المرئيّة والمخفيّة، عربدةٌ أقوى من انفجار مجموع البراكين كافة، عربدةٌ كونيّة، خميرتها الفكر لا لحم الجسد، وما لحم الجسد فيها سوى شرارة للوحي، والباقي كلام، كلام هو قنابل الكلام النوويّة، هو أعلى درجة بلغتها حمّى الكلام في تواريخ اللغات البشريّة.

وهل الشَبَق إلّا زَبَدُ الخيال؟



كلاهما
المرهَفون الملهَمون لا بدّ أن يكونوا هم أنفسهم القساة الأشاوس حتّى يتحكّم مزيجهما في انفعالاتنا. كم من واحد فيهم جمع بين ذوب الرقّة وقاطِع السخرية، وبين الأثيريّة واللحميّة، وبين الكِبر والخِسّة. مَن يعرف الطبيعة البشريّة؟ الذي جَبَلَها لم يعرفها.

احمرار الوجه
لم أعرف سلطويّاً واحداً يحمرّ وجهه خجلاً من نفسه. لم أسمع بزعيمٍ احمرَّ وجهه إلّا تعبيراً عن شهوته لقتل خصمه في الحال لو أمكن. احمرارُ نفاد الصبر. احمرارُ ضيقِ الكلام عن ترجمةِ الشعور.
لا يزال هناك نساء تحمرّ وجوههنّ خجلاً ولو تراجع عددهنّ. أكثريّتهنّ، لحسن الحظّ، بسبب خاطرةٍ غير بريئة. ما أجمل هذا المشهد. لا يفوقه جمالاً إلّا وجهٌ نسائيّ لا يحمرّ خجلاً بسبب خاطرةٍ غير بريئة.

سرقة
ليس الفقر، بل عدم الملْك. تلك إحدى القيم التي يُدافَع عنها بدون سخرية.
عدم الملْك كإرادة لا كعجز. كحماية للذات لا كادّعاء طهارة.
ليتملّك الآخرون، سيؤدّون خدمةً جليلة للّذين لا يملكون ويشتهون مقتنى غيرهم وامرأةَ قريبهم. بدون تملُّك المتملّكين ينهار أساس جوهري من أسس الحسد. والحسد واحدٌ من مصادر الحلم.
هناك أشياء تُسرق دوماً من المتملّك. ولا تكتسب جمالها إلّا حين تُسرَق.

«الدفاع الممسوس»
يسمّي أطباء النفس الحديثون نوبات الضحك التي تصيب المرء أحياناً وتكرج بلا ضابط، يسمّونها جزءاً من نظام «الدفاع الممسوس». تنتشر هذه الظاهرة عادةً بين الأحداث والمراهقين لأنهم أكثر مَن يتعرّض للقمع النفسي والتربوي فيفرّجون عن انضغاطهم بهذه الطريقة.
ولكنْ قد يعبّر بها الكبار أيضاً، ولا سيّما منهم الأكثر اضطراراً لقمع النفس والطاعة أمام مَن يفوقهم سلطة أو يخشون إرهابه، وهي للجهاز العصبي كالزفير للرئتين.
في الكتابة أيضاً تحصل ردّة الفعل هذه، متخذةً شكل التداعيات المتدافعة. إنّها للذات كالمدخنة للموقد، لولالها لاختنق البيت بالدخان.
لا تخلو نوبات الضحك هذه من الخوف، بل هو يرافقها في صميم انفلاتها ضدّه أو بسببه. وتلاحَظ على طرفي عيني الضاحك وعلى طرفي فمه وهو يتفتّق ضحكاً، ظلالُ قلق، كأنه متوجّس ممّا سيعاقَب به بعد العطلة.


عابرات

معطي الأمل غالٍ، حين يُعْطَب تنفطر عليه القلوب قلقاً على حاجتها منه. معطي الأمل يوزّع المخدّر والحماسة، ومَن يلزمه سوى ذلك؟

■ ■ ■


لا أحد يتفهّم الطاغية أكثر من الفنّان. أكثر من الشاعر والفيلسوف. الطاغية السياسي والعسكري تجسيدٌ جزئيّ لشهوة الطغيان التي تجتاح رؤوس أهل الفكر والفن. زَعْم الديموقراطيّة في الفن والفكر مثل زعم الديموقراطية في الألوهة.

■ ■ ■


أكثر مَن يُحسَد هم هؤلاء الذين يُخبِّطون في الأفلام. لا حقدَ ولا مرارة: الحلّ فوراً. يليهم في الانحساد الذين يُخْبَطون ولا تتأثّر صحّتهم.

■ ■ ■


اصقلْ روحك لتصير مرآة. غَطِّ وجهك فلا ينعكس في المرآةِ غير الوجه الآخر...