strong>كامل جابرحين تقع على «ابتكار» إذاعي أو تلفزيوني خفيف الظل، أو تسمع أغنية سهلة الحفظ، قد تقودك الخطى إلى صاحبها المجهول... وقد يكون هذا الأخير هو الفنان أحمد قعبور. من «صوتك والصدى»، و«يا رضا وينك» على إذاعة «صوت الشعب»، إلى شعار «لعيونك» على تلفزيون «المستقبل»، حفر قعبور لنفسه مكاناً كمبدع ظل، حتى كادت تلك السمة تميّز أعماله، حتى تلك القديمة التي أبدعها أيام كان يسارياً، وباتت على كل لسان من دون أن تصنع لمؤلفها شهرة واسعة يستحقّها: منذ «أناديكم» مروراً بـ«علّوا البيارق»، وصولاً إلى «حق العودة» التي افتتح بها «القدس عاصمة الثقافة العربية 2009» من «مخيّم مار الياس» في بيروت.
«فنانون كثر يبذلون جهداً في الإعلام أكثر مما يبذلونه في الواقع. أنا لن أسمح للنجومية بأن تأكل وهجي، وقراري الأول الذي دفعني إلى الغناء». هكذا يختصر قعبور علاقته بالفنّ، وسرعان ما يعرّج على الإشكاليّة التي لازمته كالجرح منذ إبحاره من اليسار إلى «الحريريّة»: «نعاني في هذا البلد من وطأة الأحكام الجاهزة. في الثقافة كما في السياسة. بعضهم يخوّل نفسه حق تصنيف الناس، ومنحهم شهادات في الوطنية».
ودائماً يعود بنا الكلام إلى بيروت. نكتشف حنينه إلى حديقة المنزل الأول. هذه الحديقة صارت مركز تجمع المقاومة الشعبية عام 1958. الحديث عن بيروت هو الكلام على مدينة متغيرة «بيروت صندوق بريد العرب، وساحة الاختبار، وتصفية الحسابات، وهي المقاومة التي لم ترفع الأعلام البيضاء بوجه العدو الإسرائيلي، وهي التي حضنت المخيمات الفلسطينية. وهي أيضاً المدينة التي شهدت حروب الخندق الواحد».
في محلة البسطة في بيروت، ولد قعبور عام 1955. والده محمود رشيدي كان عازف كمنجة من رعيل القدماء. «كان يمنعنا من رؤيته وهو يعزف، لاحقاً فهمنا أنّ العزف لم يحمل إليه إلا الأسى والمرض». لكن الطفل كان يتسلق شجرة التين كي يتلصص على والده محتضناً آلته. عن والده، صار الصغير يتعلّم بعض الإيقاعات، وكان يستفسر منه عن نغمات الأصوات: «صار يعلّمني من دون أن يقصد». مع بدء اهتمامه بالأغنية الفرنسية، واكتشافه جاك بريل وجورج براسنز وشارل أزنافور، ولدت لديه الرغبة في تعلم العزف على الغيتار. حاول الانتساب إلى المعهد الموسيقي الوطني في محلة زقاق البلاط، «فرفضوني لأنني ولد وليس لديّ خبرة».
بعد المرحلة الابتدائية في «الكلية البطريركية»، شاءت الظروف (الاقتصادية طبعاً) أن ينتقل الولد أحمد إلى مدرسة «البر والإحسان» في محلة الطريق الجديدة. وكانت تلك الفرصة التي وضعته على سكة الموسيقى. إذ بدأ يتتلمذ على يد أحد روّاد الأناشيد الوطنية في لبنان، المعلم سليم فليفل. «اختارني حتى أكون في الكورس المحترف وصار يأخذني معه إلى الإذاعة اللبنانية، لأشارك في تسجيل الأناشيد».
في المرحلة المتوسطة، بدأ قعبور يتأثر بالأدبيات الماركسية، من دون أن ينفضّ عن الموسيقى. وعندما اشتد المرض على أبيه، التحق بـ«دار المعلمين» بناءً على نصيحة الوالدة، كي يساعد في مصروف العائلة. هناك تطور وعيه السياسي، وأيضاً رغبته في احتراف الفن. ثم صار كادراً متطوعاً في لجان العمل الطلابي، وهي الجناح الطلابي لمنظمة العمل الشيوعي. في 1975، تخرج من «دار المعلمين» فتلقفته الحرب الأهلية: «أسّسنا لجاناً شعبية في شارع حمد (الطريق الجديدة). وذات ليلة، كانت نوبتي في الطوارئ. أخذت معي ديوان الشاعر الفلسطيني توفيق زياد. وعلى ضوء الشمعة قرأتُ أكثر من قصيدة، حتى وصلت إلى «أشدّ على أياديكم». لحّنت المقطع الأول، وعرضته على والدي، فشجّعني على إكمال اللحن. أنهيتها وقصدتُ غازي مكداشي الذي كان قد أسس الكورس الشعبي، فأعجب بها. وأول مرة غنّيتها، كانت في مستشفى ميداني وأعدتها مراراً، وكان وقعها لا يصدَّق، ثم كرت السبحة». صار قعبور الفنان الملتزم الذي ارتبط بمرحلة حاسمة في التاريخ السياسي اللبناني، وما زالت صورته راسخة في أذهان كثيرين من أبناء ذلك الجيل الذي آمن بالثورة... هل بقي بعض هؤلاء أسرى الحنين إلى زمن مستحيل، أم أن قعبور «خذلهم» فعلاً كما يتهمونه، وهو يواصل مسيرته الفنية والإنسانيّة؟
بعد «أناديكم»، كرّت سبحة الأغنيات الوطنيّة والملتزمة: «ارحل»، و«يا نبض الضفة»، و«جنوبيون»، و«أمي»، و«المنفى»... طبعها مع «أناديكم» على كاسيت: «كنت أجول مع لجنة ونبيع الكاسيت». وفي إذاعة «صوت الشعب» التي انطلقت عام 1987، كان صوته الأول الذي أعلن «معكم إذاعة صوت الشعب». ثم كانت الأغنية التي ألفها للإذاعة «صوتك والصدى جايي من المدى».
في الإذاعة الشيوعيّة، أسهم قعبور في مزج الثقافة بالعمل السياسي. يتذكر برنامج «عشاق الأرض» الذي كان يعير صوته فيه للأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي، فيذيع رسائلهم على الهواء. يقول: «كانت الإذاعة آخر حصن ديموقراطي، حيث حرية التعبير وتنوّع الفكر، وقبول الآخر من دون التنازل عن جوهر الموقف الديموقراطي السياسي المقاوم. «صوت الشعب» وحّدت البلد، ولم تكن إذاعة الحزب أو إذاعة المنطقة». في عام 1990، ترك الإذاعة إلى الإمارات العربية. وسرعان ما عاد وانضمّ إلى أسرة تلفزيون «الجديد» حيث بقي عامين. في هذا الوقت، اشتغل بكثافة على مسرح الأطفال.
لاحقاً، أتت مرحلة تلفزيون «المستقبل»، وكان من الأوائل الذين رسّخوا بصمة القناة باعتبارها مرآةً للتراث الشعبي البيروتي. وها هو اليوم يعيد إحياء شخصيّة عمر الزعنّي مع أغانيه. لماذا عمر الزعنّي؟ «لأنني أشبهه كثيراً. أنا حريص على إعادة محاولة إحياء تراثه. عمر الزعني أول مؤسس للأغنية اللبنانية، شئنا أو أبينا، وهو الذي كان يحلم بالجمهورية اللبنانية وكان أول ضحاياها. ومن خلاله، أفي بيروت حقّها، مدينة للحلم بمجتمع متماسك وجمهوريّة عصريّة ووطن مستقل».
يشتغل قعبور حالياً على إعداد تسع أغنيات من تراث الأب المؤسس عمر الزعني. وفي رمضان المقبل، سيصدر ألبوم «رمضانيات أحمد قعبور» بصوت رشا الرفاعي. نودّع الرفيق السابق، ونحن نفكّر أن أحمد قعبور فنّان مميّز لا بدّ من (إعادة) اكتشافه!


5 تواريخ

1955
الولادة في محلّة البسطة ــ بيروت

1974
انتسب إلى منظمة العمل الشيوعي

1975
أطلق أغنية «أناديكم» التي لقيت شهرة واسعة

2006
قدّم مع كريم دكروب ونعمة نعمة مسرحيّة «بيتك يا ستي» ضمن «مسرح الدمى اللبناني»

2010
إحياء شخصية عمر الزعنّي، وقريباً «رمضانيّات أحمد قعبور»