أن تكون «ابن شارع» لا يعني بالضرورة أن تكون «أزعر». ببساطة، قد تكون طفلاً هرب من بيته لأن أحداً لم يرغب به، فتلقّفته الأرصفة. هناك، تبني خيمة، تستحم في مياه البحر، وتمارس هواية تصبح فجأة مهنة. إنها قصة حياة شابين جمعهما الشارع، وشغف الرقص
ربى أبو عمّو
ليس حسان ومنيف «أولاد شارع» وحسب، فهما لا يعيشان فيه فقط، بل هما يرقصان فيه أيضاً. في كلّ مرة، يستجمعان حواسهما، تتناغم أعضاء جسد كلّ منهما استعداداً للتفاعل مع الموسيقى، ويستيقظ إحساسهما. إحساسٌ يتماشى مع الموسيقى، يتحد معها، مترجماً نغماتها إلى حركات جسدية، تنبع من كمية القهر الذي تعرّض الشابان له طوال فترة طفولتهما، فخزّناه، وفجّراه احتفاءً بالحياة بدلاً من تحويله إلى طاقة عنفية.
سلسلة من الصّدف قادت إلى المعادلة. ليست أولاها التقاء حسان ومنيف في الأوزاعي ولا آخرها مشروع «بدائل التربية وتنمية المهارات» الذي نفذته جمعية «شباب لبنان»، ما أتاح لها اكتشاف مواهبهما. فقد أنشأت الجمعية خلال العام الفائت عدداً من النوادي (رياضة، مواطنية، صحافة، مسرح ورقص) في مدرسة «شورلاين» في الأوزاعي، بهدف خلق نشاطات لامنهجية فيها. ورغم أن الشابين ليسا تلميذين في المدرسة، إلا أن جميع التلامذة، وأبناء المنطقة، يعرفون «أشطر راقصين بالأوزاعي»، فدعوهما للمشاركة في ناديهم.
يبلغ حسان تسعة عشر عاماً. حين كان لا يزال في العاشرة من عمره، كان بطل لبنان في الجمباز. أودعته والدته في مدرسة داخلية بعدما توفي والده وهو رضيع. «زهقت بالداخلي»، يسرد، مضيفاً: «دَرْس، أربع حيطان، أكل ونوم». هذه كانت حياته. لا يذكر غير هذه الأجزاء، أو لا يشعر برغبة في البوح حول عمّا بقي. اتخذ قراره وترك الداخلي ليتابع دراسته في القطاع المهني. انتقل للعيش مع والدته وزوجها. إلا أن الخلافات سرعان ما نشبت بينه وبين الزوج الذي خيّره بين الامتثال له تماماً، أو الرحيل، فاختار الشاب الرحيل. قضى في الشارع أربع سنوات، ساكناً خيمة صنعها بنفسه. «لم تكن تتسرّب المياه إليها شتاءً». يبدو فخوراً بهذا الإنجاز. خلال إقامته في الشارع الرحب، بدأ حسّان يتعلّم حركات الجسد الخاصة برقص الشارع من شباب لفظتهم بيوتهم هم أيضاً. كان الرقص كالدواء لحالته. ففيه «نوع من الثورة، خصوصاً أنه نابع من الفقر ومن القهر. يتيح لي التحدي وفشّ الخلق»، يقول حسان، مضيفاً «ثمّة شيء داخلي كان يقول لي ارقص». في الشارع، صار يمزج بين التعلّم والتعليم. أصبح يدرّب شباباً من جيله وأصغر منه «من حرقتي، لأن أحداً لم يعلمني.»
حسان لديه كنية مذكورة في إخراج القيد، إلا أنه يتردد في ذكرها. يبتلع ريقه وكأنه يبتلع كل ماضيه، وهو يراوغ في الإجابة ذاكراً أنه يفضّل لقب «سانتوس»، الذي ورثه عن والده. «كان الناس ينادون أبي سانتو، (أي نبي)، لأنه كان رجلاً صالحاً». بعد أن رقص كثيراً في الشارع، انتقل بفضل نادي «شور لاين أكاديمي» إلى الإفادة من موهبته ونقلها للآخرين ضمن عمله مدّرباً في إطار مؤسساتي. ولأن الصدف لا تنتهي، عاد حسان والتقى في الشارع صديقه منيف، الذي كان زميله في المدرسة الداخلية قبل أن يتركاها. منيف ثلاثي الجنسيات. هو لبناني وأفريقي وأميركي. والده لبناني تزوّج أميركية في أفريقيا. توفي الأب فانتقلت الأم للعيش في الولايات المتحدة بعدما كانا قد انفصلا في وقت سابق. كان مصير الشاب السكن في بيت عمته، حيث وقع ضحية لتجاذبات العائلة بشأنه، إلى أن جاءت تلك اللحظة التي اتخذ فيها قراره. الشارع. سبعة أشهر هي المدة التي قضايا متسكعاً بين هذا الرصيف وذاك، إلى أن عاد والتقى حسان، فسكنا معاً، هما اللذان جمعتهما المصيبة والرقص!
منيف أيضاً هو عاشق لـ«رقص الشارع»، منذ طفولته. كان يراقب حركات مايكل جاكسون ويحفظها. يبحث عن حركات جديدة على الإنترنت. والأهم، أنه كان يشعر، فيرقص. وبعد أن أتيحت له ولحسان فرصة الانضمام إلى نادي الرقص كمشاركين، تحمّست مديرة المشروع رندا عجمي لموهبتهما ولقصتهما، فعرضت عليهما أن يصبحا مدربين. كانت البداية صعبة. «كنا نشعر بأننا عاجزان عن إدارة صف فيه تلاميذ ذوي طباع مختلفة». إلا أن الوضع سرعان ما اختلف، بعد أن أدركا أنها فرصة يجب ألا يضيّعاها، لأنه «أخيراً حدا اطّلع فينا!» كما يقولان.


الرّقص متنفّساً

منيف وحسان يرقصان، يؤلفان أغاني «الراب»، ويغنيان. حظي الثنائي بفرصة انتشلتهما من الشارع. يجمعان على أن الرقص هواية وخروج من ذات يقسو عليها الواقع يومياً. حسان يرغب في أن يصبح «شيف». ومنيف يحلم بأن يكون طبيباً. إلى أن يتحقق الحلمان، لا يتعدى دخلهما الشهري مئتي دولار بالكاد تكفيهما.


يؤكّد حسان أنه «سعيد في حياته»، رغم أنه لا يخفي ضغينة اجتماعية صغيرة، ربّتها ظروف حياته الصعبة، فهو يحقد على «طبقة البابي والمامي»، لكنه حقد غير عنيف، تبدّده عوالم الموسيقى السحرية التي «تنقلنا دائماً إلى مكان أجمل لا ظلم فيه».


«فقط أغمض عينيك ودع الإحساس يأخذ جسدك إلى حيث يريد. هذا هو الرقص: أن يتكامل الشغف والرغبة والمشاعر»، يقول منيف، القلق دائماً على مصيره، خصوصاً بعد أن «قالت لي البصارة إنني لن أتجاوز العشرين من العمر» كما يقول على سبيل الدعابة.