حسام السرايلا ينظر الشاعر والصحافيّ العراقيّ أحمد عبد الحسين، إلى حياته كحالة استثنائيّة: «طفولتي تشبه طفولة معظم العراقيّين من سكان الأحياء الفقيرة، لأنّ مدينة «الثورة» في بغداد كانت أفقر حيّ في العراق آنذاك. سكّانها يمثّلون المرحلة الانتقاليّة بين الريف والمدينة، وظلّوا فيها حتّى الآن. لم يعودوا ريفيّين، ولم يندمجوا في ثقافة العاصمة». يشير إلى هذا القلق الملازم لطبيعة المكان الذي عاش فيه، كمعطى تأسيسي في تركيب شخصيّته، فتلك الظروف تترك بصماتها الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة. لا يتذكّر من طفولته غير الفقدان: «رحيل أبي ولمّا أبلغ الرابعة عشرة، هو الثغرة التي أطلّ منها الموت على بيتنا، بل على الوجود والعالم».
يتحدّث عن أجواء عائلته: «أبي كان شاعراً ينظم شعراً عموديّاً، وأخي الأكبر يحيى أيضاً. ولأنّ والدي كان رجل دين، فقد ترك لي مكتبة معظم كتبها دينيّة. صحيح أنّها كانت صغيرة، لكن كما يقول بورخيس، كانت «الفضاء الذي أنفذ منه إلى العالم»،». وهو ينظر إلى التلاميذ الذين يعبرون الشارع وسط بغداد، يؤكّد أنّ «المدرسة لم تضف إليه شيئاً في كل المراحل. هي لم تسهم في تكويني لا ثقافيّاً ولا على مستوى الوعي».
المحرّر الثقافي الذي أثارت كتاباته في الصحافة العراقيّة إعجاب كثيرين، وحنق آخرين، وكثيراً من الجدل وبعض التهديدات الشخصيّة... دخل عالم الشعر باكراً: «كان الشعر في متناول يدي. كنتُ أحفظ السيّاب كاملاً من دون أنْ أفهم منه شيئاً». وبعد برهة من الصمت، يضيف: «ربّما لو كنت في بيت فيه بيانو أو أدوات رسم، لكنتُ شخصاً آخر. صرتُ شاعراً لأنّه كان المتاح الوحيد، فالفن الأفقر يختاره الأفقر».
حلم عبد الحسين ذات يوم بأن يصبح رسّاماً بسبب قراءته لكتاب «مغامرات حنّا المعافى حتّى موته» للشاعرة إكرام أنطاكي. كتب عن هذا العمل لاحقاً في إحدى قصائده، واكتشف أنّ تخطيطات الكتاب التي كان يعيد رسمها يوميّاً هي للشاعر لوركا. هكذا، وصل إلى قناعة بأنّه سيكون شاعراً ورساماً في آن واحد. لكنّه يعترف: «في أكاديميّة الفنون الجميلة، انتهى حلمي. واكتشفت أنّني لن أكون رساماً أبدّاً، ولم يبقَ إلا الشعر». بدايته مع الشعر كانت في عام 1979 حين كتب نصّاً «يشبه كثيراً قصيدة للسيّاب».
في تلك المرحلة تعرّف الشاب أحمد عبد الحسين إلى الوسط الأدبيّ، وإلى نوع آخر من الكتابة، من خلال قراءة قصائد الشعراء السبعينيّين: زاهر الجيزاني، وكمال سبتي، وخزعل الماجدي، وغيرهم. ومن ثمّ التقاهم في «مقهى حسن عجمي» في شارع الرشيد في بغداد. يقول: «أرسلتُ نصّاً إلى مجلة «الطليعة» الأدبيّة عام 1983، فنُشر وكنت لا أزال في الـ17 من عمري. وكان النشر في «الطليعة» جواز مرور إلى الشعر. وبقي رئيس تحريرها القاصّ خضير عبد الأمير ساعةً كاملةً يحاول إقناع نفسه بأنّ ذلك الصبي الذي يقف أمامه كي يقبض مكافأته، هو الشاعر أحمد عبد الحسين».
النقلة الأدبيّة حدثت مع كتاب «الموجة الجديدة في الشعر العراقيّ» لسلام كاظم وزاهر الجيزاني. إذ نشرا قصيدتين له كآخر اسم في الأنطولوجيا لأنّه الأصغر سناً. ثم واصل النشر في مجلة «اليوم السابع»، التي كان يديرها بلال الحسن وجوزف سماحة في باريس، إضافةً إلى «الطليعة». لكن تلك المسيرة اصطدمت بحاجز هائل، هو الحرب العراقيّة ـــــ الإيرانيّة. فُصل المثقف المتحمّس من أكاديميّة الفنون لعدم التحاقه بمعسكرات التدريب عام 1987، تلت ذلك ملاحقته بتهمة الهروب من الخدمة العسكريّة، والحكم عليه بالإعدام. هكذا، عاش متخفيّاً حتّى خرج من العراق إلى إيران عام 1990.
ولأنّ الإسلام السياسيّ كان البديل المتوافر أمام الشباب الرافض للديكتاتوريّة في الثمانينيات، بعدما طُهّر العراق من كل الحركات اليساريّة، لم يكن أمام عبد الحسين ابن البيئة الدينيّة إلا أن يكون إسلاميّاً ليعبّر عن معارضته للنظام. يعود بحديثه إلى تلك الأيام: «كانت توجّهاتي إسلاميّة مع قدر كبير من التشكيك، أثمر عن هجرة مضادّة من إيران إلى دمشق، ثم لبنان فكندا». ويضيف: «في الفكر، هاجرتُ إلى اللايقين واللادين الذي ما زلتُ أعتنقه حتّى اليوم».
لكنّه غير نادم على تلك الخيارات التي حوّلت مجرى حياته: «كلّ شيء عندي كان أهون من الصمت. لذا، كان عليّ إما البقاء والمجاهرة بعدائي للنظام فأقتل، أو أخرج وأتكلّم، وهكذا فعلت. خرجت وكتبت في صحف المعارضة». ويصف محطته الثانية في ارتحاله بعد حرب الخليج الثانية بالقول: «دمشق أرحم الأمكنة التي مررت بها»، مبيناً أنّها "تعطي من دون أن تسأل. هناك، وصلت تجربتي الشعرية إلى نضجها بين 1992 و2000. وتنقلتُ آنذاك بين لبنان وسوريا وكردستان العراق».

ابن البيئة المتديّنة وجد نفسه في الإسلام السياسي، ثم قام بهجرة عكسيّة صوب اللايقين

حُكم عليه بالإعدام في عهد صدّام، بتهمة الهروب من الخدمة العسكريّة، فسلك طريق المنفى بين سوريا وكندا

لم يكن وصوله إلى تورنتو عام 2000 نهايةً لطموحاته، رغم أنّه تكيّف مع الأجواء الجديدة وما فيها من أعراف وأخلاق. لكنّه ظلّ ينتظر أيّ تغيير في العراق، وإن كان على يد الشيطان ـــــ كما يقول ـــــ كي يعود. وكانت عودته عام 2005. يقطع هنا خيط الذكريات، ليؤكّد بشدّة: «لست مع الاحتلال إطلاقاً، لكنّ مشاكل العراق الحالية لم تأتِ مع الاحتلال. الحروب الأهليّة، والفتن المذهبيّة، والعصبيّات الطائفيّة والإتنيّة، كانت تعيش داخلنا طوال العقود الماضية. كنا نربّيها استعداداً للساعة الصفر، التي حانت مع انهيار الدولة العراقيّة، فاحترابنا الطائفيّ أسبق وأعمق من الاحتلال».
لا ينسى اللحظات التي وجد فيها بغداد أطلالاً، ثم سرعان ما انهمك في كتابة المقالات والأعمدة الصحافيّة الانتقاديّة، التي كثيراً ما عرّضته لأخطار ومشاكل كثيرة. يقول: «أنا أخاف فعلاً، لكن ما أفعله ينبع من فكرة أساسيّة هي أنّ المثقف هو البوصلة والوعي النقدي والضمير، وعليه أن يشهد حتّى لو دفع حياته ثمناً لذلك».
اليوم يشرف على الملحق الثقافي في جريدة «الصباح» اليوميّة. لا يحلم كثيراً بتغيير العالم، بل يستعيد جملة لزياد الرحباني: «كلّ همّي ألا يغيّرني هذا المجتمع». لطالما انتقد أحمد «غياب الشاعر العراقيّ عن المواعيد الكبرى والمهمّات الأخلاقيّة»، ولطالما عاب على أقرانه الصمت.
ويبدو اليوم راضياً على «بيت الشعر العراقيّ»، الذي يرأسه منذ تأسيسه عام 2009: «لقد حقّق البيت نجاحاً لا بأس به، وفرض حضوره واحترامه على الساحة الثقافيّة». ثم سرعان ما ينتقل إلى المشهد السياسي في العراق الراهن: «اللعبة أصبحت سمجة. كلما أتى طاغية، أخلينا له المكان». ويشير إلى أنّ «سياسيّي العراق يكرهون الحريّة، ويعادون الأحرار، ومنهم المثقفون والإعلاميون. في أذهانهم مثال واحد للسلطة يتجسّد في صدام حسين. أعتقد بأنّهم يعشقونه في قرارة أنفسهم».
ويختم حديثه بهذه الكلمات التي تسمّي الأشياء بأسمائها: «السلطة اليوم فاسدة، تناصب الإعلاميّين العداء. فالإعلام هو الفضاء العام الوحيد تقريباً، الذي يمتلك حريّته النسبيّة في العراق».


5 تواريخ

1966
الولادة في بغداد

1979
كتب أوّل قصيدة
متأثراً بالسيّاب

1990
الخروج إلى إيران ليبدأ عقداً
من الترحال بين دمشق وبيروت، وصولاً إلى الاستقرار في كندا

1999
صدر ديوانه الأوّل «عقائد موجعة»
عن «دار ألواح» في إسبانيا

2010
مرور خمس سنوات على عودته
من المنفى. يشرف حالياً على الملحق الثقافي في جريدة «الصباح»