قاعدة عسكرية فرنسية ستكون «خشبة» لإعادة رسم مسرح جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. الخيار يثير تساؤلات في ظل التوتر الفرنسي المتصاعد ضد حزب الله. في المقابل، ثمة تخوف من ضغوط باريس والدور الذي تريده لقوة اليونيفيل
بيسان طي
عملية «إعادة بناء» لمسرح جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، ستشهدها قاعدة عسكرية في مدينة بوردو الفرنسية خلال فصل الخريف المقبل، هذا ما كشفه الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو في مقال نشره في مدونته وفي صحيفة «لوفيغارو». كاتب المقال نقل الخبر عن مصدرٍ أمني، ولفت إلى أن القرار اتُّخذ بعدما زار محقق القاعدة الفرنسية، وأضاف إن عملية إعادة البناء هذه تطرح صعوبات أمنية كثيرة.
مصدر فرنسي قال لـ«الأخبار» إن المحقق المقصود هو أحد العاملين في فريق دانيال بلمار، المدعي العام الدولي في المحكمة الخاصة بلبنان، وإن الزيارة التي تمت قبل أيام قليلة أُحيطت بسرية تامة، وأضاف «قليلون جداً يعرفون بأمر هذه الزيارة، والمقصود من العملية هو إجراء «تجربة أو تحليل ذات طابع علمي، ودراسة أنواع المتفجرات التي استُخدمت وتأثيراتها على مسرح الجريمة وعلى المساحة الأرضية التي تقع عليها». ومما قاله المصدر إنه لا يُتوقع نقل متهمين أو مشتبه فيهم إلى هذه القاعدة، وإن العملية ستقتصر على الطابع العسكري. في الوقت عينه، لا ينفي المصدر الأسئلة التي قد تثيرها عملية اختيار قاعدة فرنسية، و«خاصة أن القاعدة المقصودة هي في جنوب بوردو، وهي لا تتمتع بمواصفات استثنائية على الصعيد العالمي».
صدر القرار حول هذه العملية في الوقت الذي تشهد فيه «العلاقة بين فرنسا وحزب الله أقصى درجات التوتر، وما حادثة تولين إلّا اختبار لهذا التوتر، أو أحد إرهاصاته» وفق كلام مقربين من قيادة اليونيفيل.
من جهة ثانية، من المتوقع أن تُنفذ العملية في الخريف، وفي هذا الإطار ثمة توقعات بصدور قرار اتهامي في قضية اغتيال الحريري في هذا الفصل. وفي هذا الإطار، يعلق المصدر الفرنسي بأن «سؤال التوقيتين ـــــ توقيت اتخاذ القرار وتوقيت تنفيذ العملية ـــــ مقلق، والإجابة عنه مربكة»، يستبعد فرضية «المصادفة»، ويرفض من ناحية أخرى «تأكيد نظرية المؤامرة»، لكنه في المقابل لا ينفي ما يورده مقربون من اليونيفيل عن الرغبة الفرنسية بليّ ذراع حزب الله، ويعترف بدور استثنائي يقوم به في هذا الإطار جان بيار لاكروا، سفير فرنسا في منظمة الأمم المتحدة، وهو المعروف بدعمه الكبير لإسرائيل.
في المقال نفسه، الذي يتحدث عن عملية إعادة بناء مسرح الجريمة ـــــ في بوردو ـــــ يلفت مالبرونو إلى أن حزب الله يجد نفسه في «مرمى» ـــــ أو في دائرة الشك ـــــ من قبل «العدالة الدولية»، والمقصود بذلك بعض التسريبات التي تحدثت عن «السكة الشيعية» في عملية اغتيال الرئيس الحريري، ورغبة بعض العواصم الأوروبية والأميركية بتوجيه الاتهام إلى حزب الله أو أحد كوادره. نضيف إلى ذلك كلاماً ـــــ كتبه مالبرونو أيضاً ـــــ عن «اتصالات هاتفية تُثبت مشاركة مجموعة شيعية في عملية الاغتيال، وهي مجموعة من المساندين لحزب الله». هذه الرواية روّجت لها «لو فيغارو» قبل أكثر من عام، ونشرتها أيضاً مجلة «دير شبيغل» الألمانية، ويبدو أن ثمة إصراراً فرنسياً على اعتمادها، وهو إصرار يلقى مساندة قوية من قبل نافذين في الـ«كي

أحد العاملين في فريق بلمار أجرى زيارة سرية لقاعدة بوردو قبل أيام
دورسيه» (وزارة الخارجية الفرنسية) وفي الأمم المتحدة. وفي هذا الإطار تُحاك سيناريوهات متنوعة، بعضها يدعو إلى توجيه الاتهام للحزب مباشرة في قضية اغتيال الحريري، فيما ثمة سيناريوهات تروّج لخطر يهدد القوة الفرنسية في اليونيفيل، معتبرة أن حزب الله هو مصدر الخطر، وأن «الترويج لسيناريو السكة الشيعية خير رد على هذا الخطر». هذه السيناريوهات تقلق مقربين من اليونيفيل، هؤلاء يروون أن «بعض العواصم ترى أن خيطاً رفيعاً يفصل بين الوظيفتين المرتقبتين للقوة الدولية والمحكمة الخاصة بلبنان»، وهذا ما يدعو «إلى التخوف من الضغوط الفرنسية، فأصحاب القرار في العاصمة باريس ليسوا على معرفة بالمنطقة التي توجد فيها القوة الدولية»، فيما ينقل مالبرونو عن دبلوماسيين غربيين قولهم «لا نريد أن يتخذ الفرنسيون «اليونيفيل» كرهينة لتسوية مشاكلهم مع حزب الله».
في عودة إلى التحقيقات في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، فإن ثمة كلاماً يُنقل عن سياسيين فرنسيين مهتمين بلبنان ومفاده أن توقيف شربل ق. إنما الهدف منه «تضليل التحقيق، والرد على الاتهامات الدائرة حول اتصالات هاتفية شيعية مرتبطة بعملية اغتيال الحريري». الكلام الفرنسي لا ينفي «محاولة تبرئة شربل ق.»، ويبدي عناداً كبيراً في توجيه الاتهام «للمجموعة الشيعية»، ولا يرى مانعاً من أن تكون بوردو مقراً «لتجارب تعيد رسم سيناريو اغتيال الحريري».


لقطة

الكلام على مخاطر أو مشاكل أمنية قد تنتج من عملية إعادة بناء مسرح للجريمة، يبدو غريباً، وليس له أي تبرير علمي في إطار المعلومات المتوافرة عن العملية التي ستستضيفها قاعدة عسكرية في مدينة بوردو الفرنسية. الباحثون المهتمون يتساءلون عن المقصود بهذا الكلام: هل هو إشارة إلى مخاطر ناجمة عن دراسة متفجرات أو أسلحة قد استُخدمت في الجريمة؟ أم أن «المشاكل» المفترضة مرتبطة بالموقف الفرنسي من مسار التحقيق في الجريمة، و«بالوظيفة التي تريد باريس أن تنيط نفسها بها في هذا الإطار؟».
أخيراً، يُذكر أن أي تكذيب للخبر الذي نشره الصحافي جورج مالبرونو لم يصدر حتى مساء أمس عن الجهات الفرنسية المعنية، لكن في المقابل لم تصدر أي تفسيرات أو شروح تفيد لماذا جرى اختيار القاعدة الفرنسية.


محاولة رسم خريطة لأسئلة المحققين؟

تهدف عملية إعاة بناء مسرح الجريمة عادة إلى رسم خريطة مطابقة للمكان كما كان، وكيفية المرور فيه، ودراسة الاحتمالات المختلفة لكيفية حصول الجريمة، ما قد يُساعد على تحديد المشتبه في أنهم شاركوا في تنفيذها والتخطيط لها، كما أن هذه العملية تهدف إلى الإجابة عن أسئلة متنوعة يطرحها المحققون في جريمة ما. في رسم مسرح الجريمة، يصح اختيار مكان غير الذي شهده، وليس من الضرورة أن يتمتع المكان الجديد بمواصفات المسرح الأول نفسها. الأمثلة في هذا الإطار كثيرة، ربما أبرزها حادثة لوكربي حيث أعيد «بناء» الطائرة التي تفجّرت، لمعرفة ملابسات هذا التفجير. هذه العملية تمت بتجميع قطع الطائرة وشظاياها التي تناثرت في بقعة يزيد قطرها على ثلاثين كيلومتراً.