أنسي الحاجتَلْخُمنا الموسيقى لأننا نحبّها دون أن نفهمها، ولأنها الغريبة التي تنزل فينا أقرب إلينا من قلوبنا. تلخمنا لأنها توهمنا بأنها، وهي اللغة الإلهيّة، لا تقيم فارقاً بيننا وبينها، بل أكثر: تريدنا أن نستقبلها في ديارنا وكأنها واحدة منّا. أكثر ما يستهوينا في الموسيقى، لحناً صغيراً كانت أو سمفونيا ضخمة، هو هذا الخطاب غير المتساوي بيننا، هذا التواضع المخيف منها حيالنا، وهذه الثقة الساذجة العمياء منها بأننا سنستحقّ تنازلها.
نتهيّب أمام الموسيقى أكثر مما نتهيّب أمام الأدب لأنها تخضع لصناعة علميّة رياضيّة اختصاصيّة أين منها صناعة الوزن في النظم وهيكلة العقدة وبناء الشخصيّات في الرواية. بين الموسيقى والأدب ما بين المجهول وشبه المعلوم. الأوزان الخليليّة تفرض علماً وانضباطاً لكنّ أبجديّة الشعر مؤلّفة من كلام التواصل البشري، لذلك يهون (أو يصعب) نصف الطريق أمام الشاعر، له أن يغرف ما شاء من بحر الكلام، فتعامله ليس مع رموز فوق لسانيّة. قد يشعر المتلقّي أمام قصيدة منظومة (وأحياناً أمام بعض قصائد النثر حيث تعوّض الكثافة الصوريّة وغرابة الجوّ ومفاجآت اللغة وإيقاعاتٌ ما عن غياب الإيقاع الوزني المتتابع) بمهابة وسناء ينقلانه خارج حدود الزمان، حينئذ يجاور الشعر جلال الموسيقى ولكنه، رغم ذلك يبقى أكثر منها ألفةً للمتلقّي. فسحر الشعر لا يُغرّب القارئ بالنوعيّة ذاتها التي تغرّبه بها الموسيقى، هذه اللغة الغريبة تماماً عنه، التي يصنعها أشخاص مثله من لحم ودم وُهبوا مع هذا مقدرة عجيبة تعصاه، ولغتهم «الخاصة» هذه تحرك فيه عواطف ما كان بحسبانه وجودها وتُجيّش أعنف الانفعالات وأقصاها بعداً عن وتيرة حياته اليوميّة وتحاكيه، تحاكي ذاكرتَيه الأماميّة والخلفيّة، وأحلامه وتطلّعاته ودموعه، أكثر من الصلاة، أكثر من بوح الحبيب، فيمكث أمامها ذاهلاً منخطفاً كما ينصعق المرء أمام حَدَث خارق يسحره ويروّعه.
لنبقَ في الإطار العربي. هنا لا ترقى الموسيقى إلى مستوى الحدث البهيّ الذي نشير إليه. ندع جانباً الموسيقى وننظر في الغناء أو في الموسيقى الغنائية والمسرح الغنائي فلا نعتم حتّى نتوقف عند بعض الظواهر، ولا سيما الصوتيّة منها. «يستخّفه الطرب» تعبير محض عربي وقد لا نجد موازياً لدقته في لغة ممّا نعرف. الخفّة المعنيّة هي تحليق النفس خارج الأقفاص والبروتوكولات، تحليق يطيح المراقبة الذاتيّة فيرمي صاحبه طربوشه وعقله اندماجاً في النشوة. إنه الطرب إذاً، والصوت لا الموسيقى هو سيّده. قد يستغني المطرب عن المرافقة الموسيقيّة وأحياناً يزيده ذلك إطراباً إذ يستأثر الصوت بالتجويد والسطوع كما يطلّ القمر من وراء الغيم أو ينفرد سهم البرق بإغراء الظلام. مرتّل القرآن لا يحتاج إلى الموسيقى ليتجلّى. هناك علاقة بين التجريد الصحراوي والتجريد الإسلامي والتجريد الأدائي للقرآن. والعلاقة امتدت إلى الطرب. أغاني المطربين الأقدمين كانت أحياناً بلا تخت موسيقي. حتّى محمد عبد الوهاب في بداياته، وصوته في أغاني بداياته أصفى من استحداثاته اللاحقة، كثيراً ما يحتلّ أداؤه المجرّد من المرافقة الموسيقيّة حيّزاً مهمّاً من الوقت. عندما تُسَلْطن أم كلثوم بصوتها العاري يقف المستمع أمام شيء لا يوصف. أروع ما يتلألأ صوت فيروز هو فوق بحيرات الصمت الذي تلتزمه الآلات خلال شدوها.
الأمثلة عديدة في الطرب العربي. لا ينتقص هذا من أهميّة التلحين ولا من فضل الملحنين ولا، بالأخصّ، من دورهم في «خدمة» تلك الأصوات الخارقة وفي «إخراجها» على أفضل ما يلائمها، ولمصر العديد منهم كزكريا أحمد والقصبجي والسنباطي وعبد الوهاب، وفي لبنان يبقى يتيم عصره هو عاصي الرحباني.
إلّا أن ما يستوقفنا ويستدعي التأمّل والتساؤل هو أن الصوت البشري ما زال يحتلّ في الأذن العربيّة مرتبة مساوية للموسيقى وأحياناً تفوقها، بينما تَطوّر فنّ الغناء في الغرب من الصوت (كما في التراتيل الغريغوريّة) إلى الصوت والموسيقى ثم إلى تغليب الموسيقى لا في الموسيقى المجرّدة وحدها كالسوناتة والسمفونيا بل في الموسيقى الغنائيّة والمسرحيّة ليصبح الصوت والكلمة في خدمة الموسيقى، وأكثر ما يظهر ذلك في أوبرات موزار، وحتّى فاغنر المثلّث الموهبة فكراً وكتابة وتلحيناً، والذي أراد الكلمة عنده في سويّة الموسيقى، لم ينجح في لجم موسيقاه عن الطغيان على سائر العناصر.
ومما يُضاعف التساؤل عن هيمنة الصوت في التراث العربي كون شعوب المنطقة، ولا سيما فينيقيا وفلسطين وما بين النهرين، قد عرفت الموسيقى ومارستها قبل الميلاد بألفي عام على الأقلّ، كما يشهد لوح اكتشف عام 1948 في أوغاريت بالقرب من اللاذقيّة وعليه نوتة موسيقيّة يُرجّح أنها دينيّة كُتبت للقيثارة. وقد استوحاها الموسيقار السوري مالك جندلي لتأليف مقطوعة سمّاها «أصداء من أوغاريت».
وفي المزامير يتحدث داود، بالإضافة إلى القيثارة، عن الطبل والدفوف والأرغن والصنوج. ولا ضرورة لذكر ما للموسيقى من أهميّة وتأليه عند اليونان والرومان. وفي العصور المسيحيّة الأولى برز مار افرام السرياني بتراتيله وترنيماته حتى سمّي «كنّارة الروح القدس». غير أن العصور توالت لتسفر عن بقاء الصوت البشري هو النجم الأسطع في موسيقى العرب. ولا يكفي لتفسير ذلك ذريعة التخلّف، فإذا كان فقر التأليف العربي حقيقة فليس معناه أن نضع اللوم على الصوت، بل لعلّ الخلاصة من هذا أن الصوت البشري الشرقي يستطيع، لخصائصه ولخصائص الأذن الشرقيّة معاً، أن يُشبع حاجة الشرقي إلى الأنغام. فالصوت الشرقي، أو العربي تحديداً، هو للعربي موسيقى كاملة لا مجرّد صوت.
هل هو الإسلام الذي أنجب، بالمباشرة وبالمداورة، هذا الانشغاف بالصوت المُفرد؟ أم أن طبيعة الغناء الشرقي، بصدور الصوت من الصدر لا من الرأس كما في الغناء الأوبرالي، تفسح له في التعبير عن مساحات ومسافات من العواطف واللواعج والأحاسيس تجعله، حين يكون خارقاً، قادراً على أن يستغني، بهذا القَدْر أو ذاك من الوقت وربما طوال الوقت، عن مصاحبة الآلات الموسيقيّة؟
لنعد إلى الكتابة. يرقى سحرها إلى سحر الموسيقى عندما تصبح الكتابة حقلاً مغناطيسياً فتتحقّق لحظة يقف الموسيقار عندها مخطوفاً أمام الكتابة كما يقف الكاتب مخطوفاً أمام الموسيقى. ينسحب هذا أيضاً على الرسم والنحت. وهنا، في هذه النقطة الوَجْديّة، تندمج الفنون بعضها ببعض في التعبير الجامع، العابر للعقول والحواس والأرواح. نقطة يشعر كلّ واحد أنّها رؤيا رؤاه وعطر عطوره ولحن ألحانه وإكسير لذائذه، فيتحرّر من عقدة الجاهل حيال العالم، ويحلّ عنده محلّ تَهيّب غير العارف أمام تبحّر الضليع، يحل تَهيّب من نوع آخر، تَهيّبُ الصغير والكبير، البريء والمجرم، الساذج والساخر، التلميذ والأستاذ، حيال ما يشعرون أنه هو ما انتظروه دائماً، هو ما خالجهم دائماً ولم يهتدوا إلى التعبير عنه، هو ما يقتلعهم من الأرض وما يجذّرهم فيها، هو ما يستطيع المرء أن يقول بعده للحياة: اكتفيتُ! وأن يقول لها في الوقت ذاته: زيديني لأستعيد هذه اللحظة، ولن أرتوي من تكرارها!

■ ■ ■

مرّة أخرى إلى الموسيقى.
يبدأ سحر الأوبرا في المغادرة ما إن ترتفع أصوات المغنّين والمغنّيات، مهما تكن جميلة وقديرة. وفي الغناء العربي بالعكس، لا تعرف الأذن قمّة استمتاعها إلّا مع الصوت البشري (نحصر كلامنا بالأصوات الجديرة بهذا الاسم، كأم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز ووديع الصافي) ويخفّ انسجامها في فترات العزف الصافي سواء كان مع التخت أو منفرداً وبصرف النظر عن موهبة العازفين وجودة الموسيقى. كثيرة أعمال الأوبرا التي لم يبق منها إلّا المقاطع الموسيقيّة، وكثيرة الأغاني العربيّة التي تكاد لا تحتاج إلّا قليلاً لبعض المصاحبة الآليّة عندما تكون الحناجر استثنائيّة.
نختم هذه العجالة بما بدأناه: انسباعُنا أمام الموسيقى. لهذا رونقه كما أن له خطره، إذ بإمكان الموسيقار، تحت جنح السحر، أن يدسّ فينا «الرسالة» التي يريد. وما تفعله الموسيقى هنا يفعل مثله الغناء البشري عندما تتحلى الحنجرة بعنصر اللخم والإذهال الذي تتمّتع به الموسيقى الرائعة. لكنّ الصوت المغرّب بنا هو أخطر من تغريب الموسيقى. الموسيقى نستشعرها ولا نفهمها، والصوت نفهمه. نفهمه ويصعقنا. نفهمه ويصيبنا بالمسّ. نفهمه ولا نفهم لماذا يفعل بنا ما يفعل. لمسةٌ صغيرة من صوت ساحر تُغيّرنا أكثر من أي تجربة. وأكثر من بحرِ موسيقى.
لأنَّ الموسيقى كانت صوتاً، وبالصوت جاء الكلمة، ومن الصوت تفرّعت الأنغام، وعلى مَدّ الصوت بُني جَزْره. سكون الصوت هو الليل وحضوره النهار. الصوت، الصوت الذي كان وحيداً مستوحشاً في أرض أعطيتْ لصاحبه وصُعّبتْ عليه، هذا الصوت هو الذي أرسل أول غناء بشريّ في مجاهل الكون، طائراً على أجنحة ذاته، حافراً طيّات الزمن وفاتحاً أبواب السماء.
ولعلّ أعظم الحبور هو أن تبقى الأذن سابحة بين شعاع الصوت وموج الموسيقى، لا تفيق من فتنة هذا إلّا لتغرق في أحضان ذاك.

الخسارة بفضل الله
المرجع العلامة محمد حسين فضل الله لم تخسره طائفته بل الإسلام كلّه والعرب جميعاً بمن فيهم النصارى. فهو المفكّر الحرّ، والجميع يخسرون بغياب المفكر الحرّ، وخسارة العرب والمسلمين مضاعفة لقلّة مفكّريهم الأحرار ولجسامة التراجع الحاصلة والمتفاقمة في عالمنا المسكين. وهو المفتي الحديث الجسور في مجتمعات يزدهر مفتوها الظلاميّون المرعبون. وهو الأديب الشاعر النضر المنفتح الحاضن المتجدّّد الذي واكب أقصى الأقلام ثوريّةً وتمرّداً وصادقها وحنا عليها. وهو العقل الذي لم يشعر مخالفه الرأي بأن بينهما جداراً بل دائماً بينهما تموّج الجَدل وأُخوّة الحرّية. لقد كان آيةً عظمى من آيات الله في الخلق والمعرفة والريادة والصلابة واللين والمحبّة والغضب البارّ.
وسيزداد نوره إشراقاً باشتداد ظلام الأيّام حولنا.

رفيق المعلوف
لم يكن يليق برفيق المعلوف مسقطاً أول ومسقطاً أخيراً إلّا كفرعقاب. عشّ النسر للنسر. وهذا النسر كان مستوحداً بفصاحته وبُحوره في منفى الحداثة الذي صنعناه، جيلي وما لحق بجيلي، وكأنّي بنا نصنع قصاصاً لمن يخالفنا الرأي، وأولهم الشاعر الكبير والأديب البليغ رفيق المعلوف، الصديق الطيّب المُحرَج من جهة بمحبّته لنا كأشخاص ومن جهة أخرى بانزعاجه الشديد من «قصائدنا» النثرّية. وقد كتب الحقوقي والبرلماني والصحافي نصري المعلوف، على ما ذكر جورج سكاف، أن شعر رفيق «أعاده إلى أصوله البعيدة، إلى القبيلة القحطانيّة قبل خمسة عشر قرناً، في أسرة توارثت أجيالها سرّ البلاغة جيلاً بعد جيل»، ووصفه بالنابغة الذبياني المعاصر.
قبل صداقتنا في العقد الأخير ربطت رفيق المعلوف صداقة مديدة بمحدث آخر هو يوسف الخال، وقبل يوسف زمالة جريدة «الزمان» مع شوقي أبي شقرا. عجيب أمر هذا القلب السمح والرأي القاطع والأصالة الذهبيّة، كيف كتب له القدر أن يصادف في طريقه دوماً «أخصاماً» يتبادل وإيّاهم كل الحبّ ويرضاهم كما هم ولا أقول يرضونه فقد كان مثال الأخ والصديق ومعلّم قَلَم وشجاعة.
كان شاعره المفضّل بين المعاصرين أمين نخلة. وكان يسمّيه، حين يقدّم له قصيدة أو مقالة في الصفحة الأدبية الأسبوعية التي كان يحرّرها قبل نصف قرن في جريدة «الجريدة»، «أديب العرب». وكان صاحب «المفكرة الريفيّة» يسعد بهذا اللقب، كما كان يستطيب كتابة رفيق.
أراه داخلاً عليّ في «النهار» بقامته الفارعة وابتسامته التي سرعان ما تنفرج عن ضحكة تشرح الصدر، وظلال وجهه المفعمة بالحزن والأمل، تلك الظلال الشاعريّة التي انطبعت في ذاكرتي منذ اللحظة الأولى لمشاهدتي إيّاه قبل ذلك بخمسين عاماً، وظلّت ماثلة في ذهني بل في حواسي، كمزيج من بخار الخمر وعطر القهوة ودخان السيجارة وإيقاعات شعرّية لا فرق بينها وبين خَفْق الدورة الدمويّة.
ما كان أرحم وجودك أيّها الفارس الذي لم يعرف غباراً سوى ندى القمم.