ضحى شمسموجة الحر التي تخيّم على لبنان مرشحة للتفاقم لأسباب لا علاقة لأحوال الطقس بها. فالبنية التحتية للبنانيين، أي ما يصنع المناخ العام للبلد نفسه من شؤون وشجون محلية وعالمية، وتأثر المواطنين الرازحين تحت أكوام الأخبار السيئة بها، سيضاعف أثر الحرّ عليهم. «المجتمع شوب» إذاً. ركود قاتل في الهواء. تنتظر أن تتحرك سيارة السرفيس قليلاً في زحمة السير، لعل نسمة تهبّ فتغيّر هواء السيارة المثقل بروائح العرق وروائح أخرى تعصى على فهم الأنف. الشارع ليس أفضل حالاً. تحاذي مستوعبات الزبالة المكشوفة لأن سوكلين تجد أن ذات الأغطية منها «غالية» أكثر من صحة الناس، فلا يتزحزح الذباب الدبق عنها. تفوح رائحة تخمر القمامة النفاذة. تحاول حبس أنفاسك مراهناً على تقدم السيارة لتتنشق هواءً «نظيفاً»، لكنك تكاد تختنق قبل أن يقلب الدولاب. مياه تنبع من الإسفلت، أما الريغارات فتفوح برائحة المجارير.
«المجتمع شوب» حتى على الشاشة. وزير الداخلية يعنّف عنصر قوى أمن لضبطه يخالف القوانين التي هو «قيم عليها». يقول له «عيب عليك انت بتعرف القانون»، وينظر إلى الكاميرا. شيء ما يزعجك في المشهد مع أنك توافق الوزير على وجوب التشدد باحترام القوانين: لمَ أمام الكاميرات؟ لمَ هذه الإهانة الإضافية؟ لمَ الحاجة لتهشيم صورة العنصر؟ وإلى ماذا يؤدي هذا التهشيم إذا ما وضعنا جانباً تحسين صورة الوزير؟ ألا ينصّ القانون على عقوبات مسلكية لأفراد قوى الأمن؟ وماذا يعني قمع مخالفة عنصر واحد أمام الكاميرات، في دولة، الفساد فيها نظام ظل، يتواطأ لبنان حكومة وشعباً، على تركه يستشري؟
حقوق الفلسطينيين المدنية هي الأخرى «ولعت» المجتمع. هكذا قدحت عيون القوات والعونية والكتائب شرراً لفكرة أن يسجل باسم الفلسطيني بيت اشتراه بماله، بيت يمكن هذا الإنسان من توريث سقف، مجرد سقف، اشتراه، لأولاده. أصبح الحق في امتلاك ما تشتريه خطراً على بنية لبنان الديموغرافية (إقرأ طائفية). أما كيف يمكن أن يكون ذلك إن لم يكن الفلسطينيون ينتخبون؟ فعلمه عند الله. بالتزامن، وفجأة أيضاً، استفاقت الدولة على... صيدليات مخيم البداوي فأمهلتها 3 أيام للحصول على ترخيص هو ممنوع أصلاً على الفلسطينيين. وبالتزامن أيضاً سرب للإعلام تفسير يقول إن إقفال صيدليات المخيمات هو للاشتباه ببيعها حبوباً مهدئة تستخدم كمخدرات. لكن إن كان باستطاعة الدولة أن تقفل صيدليات البداوي، عكس باقي المخيمات، فمعنى ذلك أن «يدها طايلة» هناك! فلمً لا تراقبها دون تعطيل آلاف الناس الذين يتكلون على وجودها؟ ولمن لا يعرف، فإن مناطق بكاملها في عكار، محرومة من أي طبيب لبناني، يقوم بأودها الصحي فعلياً، أطباء فلسطينيون غير معترف بحقهم في العمل حتى لسد النقص في إتمام الدولة لواجباتها. ولمن يهمه الأمر، فإن أهالي تلك القرى، يحمون هؤلاء الأطباء برموش عيونهم، مع أنهم محسوبون على تيار يحاول اليوم أن يقايض حق العمل بحق التملك. في البقاع أيضاً، خاصة، «المجتمع شوب». لا يجد الأولاد متنفساً من الحر إلا الغطس في محاقن المياه الزراعية المليئة بالوحول والأعشاب. 4 قتلى في 4 أيام. وإلى الجنوب در. المجتمع عند «الجيران» شوب أيضاً. ففي شهر حرب تموز يحلو لإسرائيل أن توحي بأن طرف تموز بأيلول مبلول. وحده هذا الإيحاء بحرب ما، قد يحوّل أنظار الرأي العام الغربي عن اكتشاف إسرائيل «جديدة»: دولة مجرمة، مريضة نفسياً ومسلحة وفوق ذلك ذات سلطة لامحدودة متغلغلة أدواتها في مؤسساتهم، وخصوصاً تلك التي يصنع فيها رأيهم. لا تجد إسرائيل مفراً من استعراض لـ«تغيير الموضوع»: مناورة يبكي فيها المواطنون، ويعيشون اضطهاداً افتراضياً كمدنيين تشن عليهم حرب غير مفهومة. يكاد الإسرائيليون لانسجامهم في الدور، يكررون سؤال الأميركيين «لماذا يكرهوننا»! في هذا الوقت، نجد في فرع «العربي والدولي» الأستاذ سمير جعجع، عاكفاً، بتكليف شرعي من وليّه الفقيه في عوكر، على محاولة «شعللة» الأجواء عبر ضرب حجري صوان المحكمة الدولية وحزب الله، لعل شرارة تخرج منهما فتوقد ناراً يستدفئ بها سياسياً. وماذا عن «غضب الأهالي» من «اليونفيل» التي تريد التحول لقوات انتداب على ناس أخرجوا واحداً من أقوى الجيوش من أرضهم؟ أيندرج غضبهم تحت عنوان «الشوب»؟ ففي الحرّ تتخمر الذكريات، وخاصة مع مصادفة ذكرى حرب تموز التي «تميّزت» فيها «اليونيفيل»، بعدم مساعدة الأهالي. أذكر تحديداً رواية زهراء بندر في قرية «زبقين»، وكيف أنها وبضع نساء قطعن طريق آليات «اليونيفيل» خلال الحرب بالتمدد على الزفت لإجبارها على التوقف لمساعدتهن في الخروج من القرية المستهدفة. وتوقفت الآليات، ليخرج منها جنود هجموا على الناس ملقين بهم على جانبي الطريق، ثم عادوا لآلياتهم تاركين هؤلاء لمصيرهم. طبعاً خطاب الجنرال أسارتا العاطفي للأهالي مهم، لكن أليس عند الضيق يُعرف الصديق؟ فكيف إن ظهرت الصداقة فقط عندما يكون الضيق... في الجهة المقابلة من الحدود؟ مشكلة.