زينب مرعي
بعينه السحريّة، تبدو الأمور أكثر بعداً عنه، أكثر بعداً عن الواقع. تلك «الآلة»، على صغر حجمها، تقف حاجزاً بينه وبين الواقع، درعاً يحميه من أيّ «رصاصة طائشة». مهما يكن، فلا تضع الكاميرا جانباً. لا تتركها تتدلى من عنقك، دعها لتبقى العين التي تقودك. «إذا أبعدتها فستنهار لا محالة. ستعود لتتأمّل بعينيك وستتحوّل بلحظة إلى مجرّد إنسان عادي. لن تكون المصوّر بعدها». هذا هو رمزي حيدر متمسّكاً بكاميراه في ساحة الحرب. هنا اكتشف أنّ دوره في الحياة مختلف وأنّ المصوّر الصحافي يسير فعلاً عكس التيار.
حين التقيناه للمرة الأولى في مقهى في شارع الحمرا، بدأ بالتحدّث عن نفسه، ثم توقّف فجأة وتمنّى تحديد موعد آخر للقاء. في اللقاء الثاني، في مكتب جمعية «ذاكرة»، اعترف المصوّر الصحافي المعروف بتردده في خوض هذه التجربة. يبدو واضحاً أنّه لا يزال غير جاهز لجردة حساب جذريّة. «ربما في سنوات لاحقة سأتمكن من الغوص في حياتي الشخصيّة» يقول. لا ينفع الفضول والإلحاح في جعله يتكلّم، لا يقول إلا القليل.
ابن العائلة الجنوبيّة المؤلّفة من ثمانية أولاد، سكن حيّ الشياح في ضاحية بيروت. هنا صار يقرأ لجاره الأميّ، أوّل الحرب الأهليّة. كان أبو أمين يختار بعض مقالات الصحف بحسب الصور المرافقة لها، ويطلب من المراهق أن يقرأها له. لم يكن رمزي يقرأ الصحف قبل ذلك، وإذا بالصور التي يختارها أبو أمين، تدخله عالم الصحافة عموماً، والصورة على وجه الخصوص. صار هو الآخر يلتفت إلى الصورة قبل المقالة. بعد ذلك بسنوات، فهم أهميّتها وأبعادها، وصارت محور اهتمامه. أراد أن يصبح الشخص الذي يلتقط الصورة. لكنها بقيت في ذهنه مرتبطةً بالخبر. لم يتعدَّ عتبة عالم التصوير الصحافي: «لم أجد نفسي في تصوير الإعلانات مثلاً. ذاك العالم ليس عالمي، ولا أعرف كيف أتواصل مع أصحابه. صورتي تعبّر عن أفكاري وثقافتي وهي منحازة دوماً إلى الفقراء. إلى الضحية، أينما ذهبت لا إلى القاتل». بكاميراه الصغيرة التي وجدها في المنزل، بدأ يقود رحلاته الاستكشافيّة للتصوير. ثم ما لبث أن باع سيارته من نوع «بيجو 504»، ليشتري كاميرا أفضل ويجهّز «غرفة سوداء» في بيته لتظهير الصور. هكذا بدأ يفكّر في الاحتراف.
في زمن الحرب، لم يجد معهداً يلجأ إليه لتعلّم تقنيّات المهنة. لكن عوضاً عن ذلك، كان المصوّر كلود صالحاني جاهزاً لإعطائه ما لديه. من هنا، انطلق ليحصل على أول عمل له مصوّراً في الوكالات اللبنانية، ثم في مجلّة «بيروت المسا» بين 1979 و1981. حينها، لم يكن هناك غير الحرب ليصوّرها، وخصوصاً أنّه كان يعيش على خط تماس «الشياح ــــ عين الرمانة».
«زوم» على المنطقة التي يقطنها... ها هم المسلّحون. «لم أكن أراهم بهذا الشكل قبلاً». تنقّل بين مسلّحي الغربية والشرقيّة، فوجد أنّ مسلّحي «الشرقيّة» أكثر تنظيماً من مسلّحي «الغربية». «في الشرقيّة، كانت هناك سلطة الحزب الواحد، فكنّا نطلب إذناً بالتصوير من «المجلس الحربي»، ليحدد لنا الأماكن والأوقات التي يمكننا أن نصوّر خلالها. أمّا في «الغربية» حيث الأحزاب كثيرة، فكنّا نتنقّل على سجيّتنا، وهذا ما جعل الوكالات الأجنبيّة عامةً تتخذ من «الغربية» مركزاً لها في الحرب».
بعدها، تتالت الحروب: من «عناقيد الغضب» (1996)، إلى «حرب تموز» (2006) في لبنان، حرب التشاد (1983)، واليمن (1985)، وحرب الخليج (1990)، ودارفور وبغداد... حافظ فيها كلّها حيدر على مبدئه بالبقاء خلف العدسة. لكن كلّما سقط أحد المصوّرين، تذكّر أنه إنسان عادي. من تجربته في تصوير الحروب، تعلّم كيف يتواصل مع الناس، أو بالأحرى كيف يتواصل مع الإنسان داخل المسلّح، أينما كان، كي يضمن سلامته. يقول إنّه في رحلاته تلك، اكتشف أنّ الناس يشبهون بعضهم في كلّ بقاع الأرض، وأنّ الإنسانيّة ما زالت محفوظة في داخلها. اليوم، يقول رمزي حيدر «لا للحرب». اكتفى. لن يصوّر حرباً أخرى. حتى شؤون وكالة الصحافة الفرنسية (أ ف ب) التي عمل فيها منذ 1988، لن تشغله بعد اليوم. فقد تركها مطلع العام الحالي ليتفرّغ لمشروعيه «مهرجان الصورة ــــ ذاكرة» و«دار المصوّر». لن يستخدم بعد الآن «الديجيتال»، بل سيعود إلى كاميرا «الفيلم». هذه حياة على عكس الأخرى تنتج صورةً. فيها تفكير وتأمّل أكثر، وعمل بنوعيّة أفضل، تماماً كالكاميرا التي ينوي العودة إليها. يمضغ مسواكه الثاني، ربما استعاض به عن السيجارة، وهو يخبرنا عن هذه المرحلة الانتقاليّة من حياته. بدأ يفكّر في التغيير عام 2003 وهو يصوّر الغزو الأميركي للعراق. فكّر في أن يعطي الأطفال هناك أجهزة تصوير كي يعبّروا عمّا يحصل معهم. لكن الأوضاع الأمنيّة حالت دون تحقيق مشروعه هناك، فقرّر في 2007 نقله إلى لبنان عبر تأسيس «ذاكرة» مع بعض الأصدقاء. بدأت الجمعية عملها بمشروع «لحظة» مع أطفال المخيمات الفلسطينيّة في لبنان. صوّر الأطفال وحياتهم اليوميّة، وعرضت الصور في معرض نظّمته الجمعيّة، ونشرتها في كتاب «لحظة» (دار أمار). ثم كانت «ما بعد اللحظة» لـ«ذاكرة» التي جمعت هذه المرّة أطفال المخيمات الفلسطينيّة مع أطفال لبنانيين من المناطق المهمّشة على امتداد الأراضي اللبنانية.
اليوم، تبحث الجمعيّة عن تمويل لمشروعها الثالث الذي يقضي بإنشاء خمسة استوديوات تصوير في بيروت، وبعلبك، وطرابلس، وصيدا، وصور، لتوفير العمل للشبان الذين شاركوا في مشروعي «ذاكرة» السابقين كما لتطوير تقنياتهم. أمّا ذلك البيت البرتقالي العتيق، في شارع الحمرا، فيستعد ليصبح «دار المصوّر»، وهو لم يجفّ طلاؤه بعد. يفتتح حيدر مشروعه الثاني بعد رمضان. «سيكون داراً للمصوّرين المهمّشين» يقول. تحتضن الدار «غرفة سوداء» ليتعرّف إليها مصوّرو جيل كاميرا «الديجيتال» وكي يستعملها من يريد تحميض أفلامه، وستضمّ كذلك صالة للعرض. رمزي الحائز جوائز منها «أفضل صورة لعام 1987» من مجلّة Newsweek، والجائزة الأولى عن فئة مصوّري «الحرب والنزاعات» في مسابقة «Fifth BMW East Press Photographer»، ينطلق إلى الحريّة أخيراً عبر هذين المشروعين. سيستيقظ كل يوم، بعين جديدة، ليكون كالصورة دائم التجدّد.


5 تواريخ

1955
الولادة في جويا
(جنوب لبنان).

1987
حاز «جائزة أفضل صورة للعام»
من مجلّة Newsweek

1988
عمل في وكالة الصحافة
الفرنسية «أ ف ب»

2007
شارك في تأسيس جمعية
«مهرجان الصورة ـــ ذاكرة»

2010
ترك التصوير الصحافي كوظيفة
ليفتتح «دار المصوّر»