قد لا يليق لقب بوليد فرج، أكثر من لقب مطرب «الحقيقة». فابن بلدة «العريضة» الحدودية، وباب التبانة خلال الحرب الأهلية، الذي كان يتسقط الرزق مطرباً في الأفراح الريفية، لم ينل شهرة تجاوزت بلدته إلا حين أصبح الذراع «الفنية» لبروباغندا 14 آذار الشعبية، وتحديداً فرع «الحقيقة» في الأوساط السُّنية في الشمال والمغترب
ضحى شمس
كان يمكن وليد فرج، ابن الـ42 عاماً، الذي استقبلنا بطيبة بالغة في منزله عند مفرق دير عمار، أن يصبح شعبولا لبنان، لو كان هناك إجماع وطني على مضمون ما «يغنيه»؛ فهو، نوع خاص من الفنانين «الملتزمين» بالأغنية «السياسية». هكذا، أحيا أفراحاً كان عمادها، كما سمعنا في تسجيلات كانت تباع علناً أيامها على ساحة التل في وسط طرابلس. شتم رموز المعارضة والمقاومة وسوريا بالطبع وإيران، محور الشر، مقابل مدح آل الحريري عموماً، والسنيورة رئيس الحكومة أيامها. فجأة، اشتهر بين ليلة وضحاها، وانتشرت تسجيلاته وفق خريطة متطابقة للانتشار المستقبلي في لبنان وخارجه، وصولاً إلى أوستراليا حسب ما قال لنا. لكن، كما لا ترقى الكراهية لتصبح «فكراً» وطنياً، بقي فرج أشبه بمغني ميليشيا في مشهد حرب أهلية باردة ساد بعد 2005.
«وليد فرج؟ بيتو فوق محل الفراريج بس من تاني ميل»، يدلنا أحد من سألناهم. على الشرفة المطلة على فسحة كبيرة غير مفهومة الوظيفة تتراكم فيها آليات خارج الاستعمال، حبل غسيل مكتظ بالثياب المغسولة لما بدا أنه عائلة كبيرة جداً. نقف أمام الباب الذي خلع بعض الضيوف أحذيتهم خارجه، يفتح لنا شاب صغير: «إنتو الصحافية؟». ثم يدلنا على غرفة مفروشة بأثاث حائر بين تقليد الغرب واجتهادات نجاري الشمال. يُقبل وليد حافياً، وهو ينهي تزرير قميص بدا أنه ارتداه للتو. فالحر لا يطاق. تطل سيدة محجبة من باب موارب وتسأل بخفة مرحة: «بس نسوان ولا في رجال؟»، تقصد أغراباً، لتعرف إن كان باستطاعتها مجالستنا هي أيضاً.
نقول للمطرب إننا هنا لنتعرف أكثر إلى «مسيرته الفنية». فيبادرنا بثقة: «مبدئياً وصلت شرطاني لكل أنحاء العالم. لكني لم أهتم للوصول على طريقة عاصي الحلاني أو وائل كفوري، لأني حصرت نفسي بالغناء للشيخ رفيق الحريري الله يرحمه، ومن بعده للشيخ سعد». نسأله: لم هذا التخصص؟ فيقول: «لما توفي الله يرحمه، صار في حالة بالبلد. شيء غريب. إنسان ما كان لازم يموت هالموتة. والمطرب متل الصحفي، بيوصل رسالة. الصحفي بكلمة مبطنة، وبالقلم الحر. نجحت والحمد لله، والدليل أن أغانيّ عمّت كل العالم: أوستراليا، أميركا وفرنسا. وين في مغتربين من الشمال. غنيت ببعلبك بشتورة بمجدل عنجر بصيدا بالجنوب». نسأله: الأغاني نفسها؟ فيجيب: «أكيد لأ. حسب المنطقة. لأنو الواحد لازم ياخذ حذره. نفرض المنطقة لحزب الله؟ مش نفس الشي». لكن كيف يدعوه هؤلاء؟ ألا يعرفون أنه غنّى ضدهم؟ يقول: «أكيد. لما بتقولي وليد فرج صار معروف. لكن الفنان لازم يكون عندو أخلاق. الفن بذاته أخلاق قبل ما يكون فن».
كان الصالون قد أصبح مكتظاً بأهل البيت. سألناه متى قرر أن يصبح مطرباً؟ فأجاب: «أصلي من العريضة، لما كان عمري شي 7 سنين، وكنا بالبيت 6 شباب و6بنات، كنا نجتمع: شي يدق عالدرنبكة (الدربكة)، شي يغني وكلهم كانوا يقولوا: أحلى صوت، صوت وليد. غنيت بالمدرسة، كنت بمدرسة الأستاذ أحمد بباب التبانة. أحسن علاماتي على الغناء. لما صرت 17 سنة، صرت أغني بالحفلات، لكن كمغنٍّ رديف، مثل (جورج) وسوف لما راح على بيروت وكان زغير. غنيت بمطعم الأطلال بكسروان، وربعة زينة (يفكر للحظة) ومطعم العريس كمان. ع أول 2005 لما توفى رفيق الحريري، عملت الغنية المشهورة اسمها «الشهيد». بقول (يتنحنح باحثاً عن النغمة): ممم. نحنا رجال الحريري/وكلمتنا منا زغيري/ بكرة بصناديق الخشب/ سقطها زي ما هيي/ سعد بيشكل حكومتنا/ وما بيطلعلك واحسنا»! يضحك الجميع لنكتة بدا أنها فاتتنا. فيشرح وليد مبتسماً: «لما قلت: واحسنا، كنت أرد على علي الديك (مطرب الحاصودي السوري) لأنو ما كان فينا نسمي السوريين، كان عنده أغنية يقول فيها: حدي تهدي واحسنا. كانت البلد فايتة بمعمعة، وناس بدها السوريين وناس ما بدها. ما قصدت بالأغنية أني أريد خروج السوريين، هم اخوتنا. نحن بلدين شقيقين، جيران، الباب عالباب، لكن كل إنسان حر يتصرف ببلدو على كيفه».
نسأله إن كان يحصّل قوته من الغناء في الأعراس، فتجيب زوجته بسرعة: «لما غنّى للحريري، صارت الأعراس تجيب مصاري. أي إنسان بدو يعمل حفلة صار يجيب وليد فرج». نسأله: غنيت بالقصر؟ فقال: «رحت نعم. ألقيت قصيدتين. صار يعرف الشيخ سعد مين وليد فرج». ثم يرينا الصورة التي تجمعه برئيس الحكومة على شاشة

لمّا تمّت الصلحة سُحبت عدة أغانٍ من السوق وصارت ممنوعة

العقيد أبو شهاب غنى: فيق يا أبو زهدي فيق بلّش التحقيق
هاتفه الخلوي. ويضيف: «أعطيته سي دي. كان غناءً مخصصاً مش عام. قصائد عن أبيه». نسأله: ألا يمكن أن تحب الحريري من دون سبّ الآخرين؟ يقول: «طبعاً. بس يومها صار في إهانات من هون ومن هون. يعني سامر المصري، العقيد أبو شهاب، كان عنده أغنية تقول: فيق يا أبو زهدي فيق/ قوم بلش التحقيق». أبو شهاب؟ لم نفهم. يقول: «ولو مفهومة: مبطنة». لكن أغانيه انحسرت فجأة، فما السبب؟ يقول: «صار في انسحاب لما تمّت الصلحة. انسحبت عدة أغاني من السوق. صار ممنوع بقى يصير هالغناء. نفس الشي من السوريين». بمبادرة منه؟ يقول: «تمنى عليّ رئيس تيار المستقبل بالشمال: بدنا ننزل السقف شوية، وما بقى بدنا نسمي أسامي». ثم يقول: «أنا غلطت غلطة كبيرة. ما كان لازم عرّض بالسيد حسن». نسأله عن سبب هذا الندم المتأخر «إنسان فدا حالو وراح قتل اليهود، لولا المقاومة، لبنان كان راح، بس ما حدا بيرضى يتطاول حدا على الحريري». وما دخل السيد؟ يقول: «صحيح السيد ما كان يحكي، بس يطلع ناس عالتلفزيون مخبايين بعمامته. كلام وئام (وهاب) منو كلام زغير. ومنأسف يصير هيك بين الزعماء، لأنو نحنا آكلينا بالنهاية. هياهن اصطلحوا. أنا بحب السيد. متل ما بيقول المثل: أنا وخيي ع ابن عمي وأنا وابن عمي ع الغريب. وأنا مع المقاومة ضد الأميركان وإسرائيل». لكن لو أراد أن يغني ضد سيسون فهل يسمح له؟ يقول: «أنا مني موظف، ما الون عندي، أنا بغني للسيد لما بيتغنى للسيد. لما قال انظروا إلى البارجة؟ غنيتلو: الله الله الله، يحمي حسن نصر الله». وغنيت كمان: هديتا القلب قالت لي شو هادي؟ وشعب لبنان شو رايق وهادي، ولهادي نصر الله انكتبت شهادة/ وفدا بدمو العروبة والعرب. ما رأيه بشعبان عبد الرحيم، الفنان الشعبي المصري؟ فيقول غير متحمس: «هوي بيقول قرادي. أنا بقول شعر منظوم».


شخصية محبوبة

برغم كل ما تمثله من ذاكرة سيئة للسنوات العجاف ما بعد عام 2005، إثر اغتيال الرئيس الحريري، إلا أن شخصية وليد فرج مؤثرة جداً، لا يمكن إلا أن تحبها. فالرجل يجسد المواطن المحروم أي شيء في كل المناطق: بعلبك الهرمل أو الجنوب أو عكار. محروم فرصاً عادلة في العمل، محروم تنمية الموهبة، المدرسة، التي اعترف بالنهاية أنه لم يرتدها وأنه أُميّ لا يقرأ ولا يكتب، محروم الأمان الاجتماعي والصحي. وهو على رأس عائلة من خمسة أولاد: بنتان وثلاثة شبان، عليه أن يضمن معيشتهم وسط منطقة مهملة تاريخياً لا يتذكرها السياسيون الذين تصوّت لهم إلا كل أربع سنوات، وحين يحتاجون إلى وقود لتظاهراتهم المليونية. من يلوم المواطن على وصوليته وعلى «تدبيره راسه» كيف ما كان؟ وخصوصاً إن كان الأمر مطلوباً منه من ذوي السلطة؟ تستشف أيضاً من كلام شعبولا عكار، آثار الماضي ما قبل الانسحاب السوري، على أهل المنطقة. الأخطاء التي اعترف بها الرئيس السوري بشار الأسد بعد الانسحاب في خطابه الشهير، لا يبدو أن مجرد الاعتذار سيمحوها من هنا. الذاكرة الشعبية تبقى، ولو لم تجد متنفساً للتعبير عن نفسها. هي فقط تعود بدون مناسبة أحياناً، وعلى الطلب، وهذا هو الأخطر، دائماً.