الدفاع المدني ليس بخير. الأسباب كثيرة لتبرير هذا الشعور، وقد تكثر بعد. وليس أقلها المرسوم الـ4082 المتعلق بتنظيم المديرية العامة، مروراً بالنقص في التجهيزات في بلد كلبنان معرّض دوماً للحرائق والحروب
راجانا حمية
المكان فارغ كلياً. لا حركة. لا صوت. دبيب النمل يمكن أن يُسمَع في لحظة السكون تلك. يرنّ الهاتف. مرة. اثنتين. ثلاث مرّات. لا مجيب. ثمة إصرار على طلب الرقم. يرنّ مجدداً، لكنّ الحال هي نفسها: لا تندهوا «ما في حدا».
كان يمكن هذا السيناريو أن يمر عابراً، لو حدث في مكانٍ عاديّ. لكن، أن يحدث في أحد مراكز الدفاع المدني، في وقت كانت فيه ألسنة اللهب تبتلع حرجاً بكامله في المنطقة التابعة للمركز، فهو ما لا يمكن تخيّله. حدث هذا فعلاً في أحد المراكز في منطقة ما. كان الحرج هناك يشتعل، و«الخط الساخن» في المركز من دون «سنتراليست». والموظّفون.. في أشغالهم، لأنهم لن ينتظروا التطوع في الدفاع المدني ليطعمهم الخبز.
لم يبقَ في الميدان إلا مدير المركز، وهو متعاقد أصلاً. لكن، في حينها، لم يكن «الريّس» موجوداً في منطقة عمله. فقد استدعاه المدير العام للدفاع العميد درويش حبيقة للمشاركة في المناورة التي أجرتها «اليازا» للعناصر عن «الإسعاف والإنقاذ». كانت ألسنة اللهب قد ابتلعت ما يكفي من المساحات، عندما رن هاتف الريس الشخصي. اتصال للنجدة، لكن ما باليد حيلة. فإلى حين الوصول إلى مكان الحادث، تكون النار قد «كفّت ووفّت». لم يبقَ سوى خيار واحد: الاتصال بأحد المتطوعين والطلب منه «بالأمليّة» الذهاب إلى مكان الحادث والمشاركة في الإطفاء. لكن «يا حذركم»، بماذا سيطفئ المتطوع النار، إن كانت الإطفائية الوحيدة المتوافرة في المركز معطّلة منذ أسابيع؟ ما حدث مع المتطوع أرعب من السؤال بحدّ ذاته. فكل ما هو متوافر في المركز سيارة إسعاف لا منفعة منها في حريق أحراج، وسيارة «جيب». وبما أنّ الإطفائية معطّلة، استقل المتطوع سيارة الجيب، قاصداً مكان الحريق، لمساعدة الأهالي على الإطفاء.. بـ«السطلة»!
رغم كثرة الحرائق التي تندلع في لبنان، لم تتغير ابتكارات الدفاع المدني. حيث لا يزال «السطل» و«النربيش» ابتكارات متداولة. قد تصلح هذه التجهيزات لحريق.. أرضي، لكن ماذا لو وقع الحريق في الطبقة العشرين من أحد المباني؟ ماذا سيفعل العناصر حينها؟ وأيّ «سطل» سيصل إلى هذه الطبقات؟
سؤال مربك. مرعب. يمكن تخيل المشهد بطبيعة الحال. لكن، ما لا يمكن تصوره أن يكون جواب العميد حبيقة أرعب من مجرد تخيّل حريق ينهش أجساداً غير قادرة على النفاذ منه.
كمن اعتاد الصدمات، يقول العميد ببرودة أعصاب لافتة «ما عنّا أبنية كتير عالية». ثم يستدرك مضيفاً «لدينا سلّم بطول 70 متراً نُصلحه الآن». لكن، ماذا لو بقي معطّلاً؟ هنا الكارثة. قد يحترق المبنى بمن فيه، إلا إن تدخّل الرب بمعجزة.
هكذا، هي حال جهاز الدفاع المدني. لا شيء يشفع به إلا الرب. ورغم أنه، قانوناً، جهاز تابع للدولة، إلا أنه عند الحديث عن حاله، لا مجال لغير سؤال وحيد «وينيّ الدولة؟». فلنبدأ الحديث من حكاية التعاقد والتطوع. بتعبير آخر، عن المرسوم 4082 لتنظيم المديرية العامة للدفاع المدني، القابع منذ 10 سنوات في درج وزارة المالية «على أيام ما كان السنيورة» وزيراً.
بدأت حكاية المرسوم عام 2000. في حينها، أرسل وزير الداخلية الياس المر نسخة عنه إلى مجلس الخدمة المدنية للعمل على تصنيف العناصر. بحسب معايير التصنيف، تبيّن للمجلس أن المديرية تحتاج إلى 1900 عنصر. صًنّف ما يجب تصنيفه وعاد المرسوم إلى الداخلية. وقّعه المر وأرسله إلى وزير المال فؤاد السنيورة. لكنه، إلى الآن لم يخرج من هناك.
في حينها، كان عدد المتعاقدين والأجراء 1180 شخصاً. مرت 10 سنوات، والـ1180 باتوا 750. يتناقصون يوماً بعد يوم. ومع أواخر العام الجاري، يصبحون 740. سيخرج 10 منهم لبلوغهم السن القانونية، وفي جعبتهم 6 ملايين ليرة لبنانية تعويضاً عن خدمة 40 عاماً.
6 آخرون سيخرجون بالجعبة نفسها العام المقبل، على أن يتبعهم 8 العام الذي سيليه. إن لم يصدر المرسوم «فسنصل إلى وقت لا يعود هناك أحد»، يتابع حبيقة. ويعود السبب إلى أنّ «أصغر عنصر في الدفاع المدني لا يقل عمره عن 50 عاماً، ومعظمهم في الحادية والستين من العمر». ما يعني أن آخر تاريخ للتعاقد كان عام 1986! والبديل؟ 5400 متطوع، يجبرهم الفقر وقلّة فرص العمل على الجلوس في مراكز الدفاع المدني، لعلّ المرسوم يشملهم في حال صدوره.
لكن، هل هذا العدد من المتطوعين، الذي يصر حبيقة على التذكير به في كل مناسبة، لا يزال فعلاً هو هو؟ ثمة من يُضحكه هذا الاعتقاد، ويعلّق ساخراً بالقول «ما بيطلعوا أكثر من 200». ويتساءل: ما الذي سيجبر المتطوع على المشاركة إلّا حسّه الإنساني؟ أهي «المئتا ألف» التي ينالها بعضهم كل عام تقديراً لمهمّاتهم؟ أم المرسوم الذي لا يبدو أنه خارج من الدرج.
وماذا عن البقية؟ يتابع «هم مجرد أشخاص يستهويهم الحصول على بطاقة تتيح لهم العبور بسهولة على الحواجز أو للتشبيح». إذاً، ليس كل من استحصل على بطاقة هو متطوع يعمل في الدفاع المدني، وهذا ما يطرح تساؤلاً عن العشوائية التي تُمنح بموجبها البطاقات. فعلى أيّ أساس تعطى هذه البطاقة؟
وضع سيّئ بطبيعة الحل، لكن ثمة ما هو أسوأ، وهو تسليم المتطوع مهمّات المتعاقد والأجير ومن هم في الملاك، كأن يتولى المتطوع مهمّات القيادة، وإن أخطأ ووقع حادث ما ونتجت منه إصابة أو موت، فلا مسؤولية على المتطوع.. «والعترة على اللي راح».
لا المتطوعون مسؤولون عن أفعالهم ولا هم مجبرون على الحضور. أمّا الموظفون، فلا طاقة لهم على احتمال هذا القدر من المصائب. وإن عدنا إلى العدد 750، وأردنا تقسيمهم على 204 مراكز، فلا يمكن أن يسدّوا الحاجة، وخصوصاً أن التصنيف الذي خرج به مجلس الخدمة المدنية يقضي بوجود 14 عنصراً في كل مركز، يضاف إليهم رئيس مركز وموزع استخبارات وسائق. هذا إن افترضنا أنّ عدد المراكز 100. لكن، الآن، وقد أصبح عدد المراكز 204، فإنّ عدد الـ1900 عنصر بحسب التصنيف العائد إلى عام 2000 لم يعد مطابقاً للواقع. بتنا بحاجة إلى 1900 آخرين. 3800 لا يوجد منهم سوى 40 في الملاك، و750 متعاقداً وأجيراً. وبحسب تصنيف العميد حبيقة، إذا ما استثنينا من العدد الإجمالي «150 أنثى يعملن في الأمور الإدارية، يبقى حوالى 640». ثمة استثناءات إضافية، فمن هذا العدد «هناك أيضاً شي 300 معوّقين، ما بين قلب مفتوح وسكري...». بقي 300 عنصر عملاني، على المديرية توزيعهم على 204 مراكز. وإن كان لا بد من التوزيع العادل، يحصل كل مركز على موظف واحد أو اثنين من الأجراء أو الملاك أو المتعاقدين. والباقي، يستكمل من المتطوعين. ثمة مراكز لا موظفين فيها. وفي هذا الإطار، يشير حبيقة إلى أنّ عدد هذه المراكز يبلغ 10 وهي تعتمد على المتطوّعين.
ثمة مصيبة أكبر هنا، وهي أنه إلى الآن لم تُدمج المديرية مع المديرية العامة للدفاع المدني، فهذه الأخيرة تضم فقط 40 موظّفاً في الملاك، إضافةً إلى المدير العام، فيما المتعاقدون والأجراء لا يزالون يتبعون قانوناً للمديرية، ما يعني أن حبيقة مسؤول عن 40 فقط. وعلى هذا الأساس، وقانوناً، يُسأل حبيقة عن 40 موظفاً، فيما المسؤولية عن 740 موظفاً متعاقداً وأجيراً، والمتطوعين متروكة إلى حين صدور المرسوم.
طاسة «وضايعة». وما يزيد الطين بلّة أن المتعاقدين والأجراء يخرجون بعد 40 عاماً من الخدمة، كأنهم لم يخدموا.


طائفية الدفاع المدني

سأل يوماً وزير الداخلية بالوكالة الأسبق أحمد فتفت المدير العام للدفاع المدني درويش حبيقة «ليش عم تضعّف مركز الدفاع المدني في طرابلس». يومها، كان حبيقة قد خفف من المراكز الفرعية التابعة للمركز الإقليمي في طرابلس، بسبب عدم قدرة الرئيس على إدارة كل المراكز. فهم الوزير فتفت هذا التقليص تعدياً على المذهب السنّي، لكون رئيس المركز يتبع لهذا المذهب. تدلّل هذه الحادثة على الطائفية التي بُني على أساسها الدفاع المدني، فإن كان مبرّراً أنه «لا يمكن لشيعي أن يتولى إدارة مركز طرابلس السنية»، حسب حبيقة، فما الذي يبرّر في أحد الأيام فعلة فتفت أو فعلة وزير الداخلية السابق حسن عكيف السبع عندما طلب من المديرية إقالة رئيس مركز عكار... بحجة أنّ شقيقه السنّي شارك في قتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري؟! لماذا كل هذا؟ يبرّر حبيقة هذا على أساس أن «تشكلية الدفاع المدني تأتي من صلب السكان، أنا ما فيني جيب مسيحي على ضيعة كلها شيعة». وعلى هذا الأساس أيضاً، جرى تقسيم المراكز، الإقليمية منها، وفق الآتي: 6 سنّة و5 شيعة و8 مسيحية وواحد درزي وآخر أرمني.