يكرر مسؤولون في الحكومة والسلطات اللبنانية المختلفة الاعتراف بوجود قضاة فاسدين، لكنّ هذا الاعتراف لا يُلغي حقيقة شديدة الأهمية، وهي أن ثمة قضاة لا يأبهون لترغيب أو ترهيب. أحد النماذج على ذلك، قرار صدر أخيراً في قصر العدل ــ بيروت
محمد نزال
أن يكون المرفق القضائي في لبنان بحاجة إلى «تنقية» من الفساد، على حدّ تعبير وزير العدل إبراهيم نجّار، فهذا لا يعني بالضرورة أن الجسم القضائي قد أصبح فاسداً برمته. غير أن بعض القضاة، ممن اعتادوا قبول الرشى و«الهدايا»، أو ممن تأتي أحكامهم متأثرة بتهديد البعض ووعيده، يسيئون إلى سمعة زملائهم الذين قرروا أن تكون المناقبية عنواناً لصفحاتهم المهنية، ويشجعون بعض المواطنين على اعتماد أساليب الرشى أو التهديد تجاه جميع القضاة. في هذا الإطار، علمت «الأخبار» أن قراراً صدر أخيراً في حق مواطن اتُّهم بتهديد قاضيين «بقصد التأثير على قراراتهما».
بدأت الحكاية عندما ادّعى ع. ش. على ع. س. الذي يعمل لديه موظفاً في مؤسسة تجارية، وذلك بتهمة إساءة الأمانة. أوقف الموظف أمام النيابة العامة في بيروت، وأحيل على قاضي التحقيق قبل أن تصدر بحقه مذكرة توقيف وجاهية. تقدّم الموقوف بطلب تخلية سبيله، لكنّ الطلب رُدّ وأبقي مقدّمه قيد التوقيف. لم يرق الأمر م. خ. وهو أحد أقارب الموقوف، فقرر «المرافعة عن قريبه على طريقته الخاصة». فبعد أن استأنف وكيل الموقوف قرار ردّ طلب تخلية السبيل أمام الهيئة الاتهامية، التي ترأستها القاضية سهير الحركة، باشر قريب الموقوف «مرافعته الخاصة» التي امتدت لأكثر من شهر، وذلك عبر الاتصالات الهاتفية والرسائل الإلكترونية والـ«SMS».
بداية، استحصل على رقم هاتف القاضية الحركة، واتصل بها من هاتف عمومي. عرّف عن نفسه بأنه من «هيئة الارتباط» في حزب الله، طالباً منها إسداء خدمة له بالموافقة على طلب تخلية سبيل قريبه، زاعماً أن الأخير «لم يرتكب أي جرم وأنه مظلوم». أعلمته القاضية بأن الهيئة التي ترأسها مؤلفة من 3 قضاة، يتذاكرون ويتخذون القرار المناسب على ضوء معطيات الملف. وبالنتيجة، صدّقت الهيئة قرار ردّ طلب تخليه السبيل بعد المذاكرة، الأمر الذي أغاظ م. خ.، فأرسل كتاباً خطياً إلى القاضية، حيث حضر شخص وسلّم الكتاب إلى أحد الموظفين في المكتب. تضمّن الكتاب مرافعة ومدافعة عن الموقوف، لناحية «الظلم الذي لحق به في مرحلة التحقيق الأوّلي»، كذلك أشار إلى بعض التصرفات المنسوبة إلى قاضي التحقيق بلال ضناوي، زاعماً أن ثمة علاقة تربط بين الأخير والمدّعي صاحب المؤسسة الذي تقدم بشكوى ضد قريبه. وخلص الكتاب إلى التلميح للقاضية الحركة بأنه يربأ بها عدم الابتعاد عن التجاذبات السياسية والضغوط بخصوص هذه القضية، إضافة إلى إملائه عليها الإجراءات الواجب عليها القيام بها، كإخلاء السبيل لقاء كفالة ضامنة أو سند إقامة، مهدداً أنه في حالة عدم الإذعان فإن «خطراً سوف يتهدّدها». لم يكتف قريب الموقوف بهذا، حيث اتصل مجدداً بالقاضية من هاتفه الخلوي الخاص، وعرّف عن نفسه كما في المرة السابقة، فطلبت القاضية منه الحضور إلى المكتب للتعرّف إليه من قبل أعضاء الهيئة الاتهامية. في اليوم نفسه، أرسل رسالة نصية «SMS» إلى هاتفها الخلوي من غير هاتفه، طالباً منها التعاون والموافقة على طلب تخلية السبيل الذي سوف يحوّل إليها، وأنه يتعذّر عليه الحضور إلى مكتبها. رسالة نصّية أخرى وصلت إلى هاتف القاضية بعد أسبوع على الرسالة الأولى، تضمّنت الطلب نفسه. وبعدها بثلاثة أيام، اتصل هاتفياً بالقاضية من هاتفه الخاص، إلا أنها لم تردّ بعد أن تعرّفت إلى رقم هاتفه، واستمر الأمر على هذه الحال إلى أن جرى التعرّف إليه وأوقف.

من يقدم على تهديد قاض بهدف التأثير على مناعته أو رأيه يُحكم بالسجن
وبحسب ما أكّد لـ«الأخبار» مسؤول قضائي متابع لملف القضية، تبيّن أن م. خ. «لا يمتّ إلى حزب الله بصلة، وأنه ليس أكثر من منتحل صفة»، وقد تكشّف هذا الأمر بعد مراجعة المسؤولين في حزب الله من جانب القضاء، فتبيّن أنه «شخص تبدو عليه علامات البساطة، ولا يدرك حجم ما فعله لناحية انتحال صفة وتهديد قاضيين بعد ذمّّهما». من ناحية أخرى، رفض القضاة المعنيون بالقضية التحدث عنها «حتى لا يُفهم الأمر على نحو خاطئ».
أخيراً، أصبح من أراد إخلاء سبيل قريبه هو الموقوف، وربما بحاجة إلى من يعمل على إخلاء سبيله. وقد باشر التحقيق معه قاضي التحقيق في بيروت، شوقي الحجّار، وأحال القضية على القاضي المنفرد الجزائي في بيروت، طالباً له العقوبة المنصوص عليها في المادة 382 و386 من قانون العقوبات.
أحد المتابعين للشؤون القضائية رأى في هذه القضية نموذجاً للقضاة «الذين لا يتأثرون بالتهديد والوعيد، فضلاً عن الترغيب»، ليختم قائلاً: «لو خاف كل قاض من شخص انتحل صفة ما، لما صدر قرار يمتّ إلى العدالة بصلة. وحبّذا لو يلتزم جميع القضاة بالمناقبية في كل القضايا التي تحال عليهم، وخاصة الكبيرة منها، التي تتصل أحياناً بالرؤوس الكبيرة في هذا البلد».


لقطة

تنص المادة 382 من قانون العقوبات على أنه «من هدّد، بأي وسيلة كانت، قاضياً، أو أي شخص آخر يقوم بمهمة قضائية أو يؤدي واجباً قانونياً أمام القضاء، كالحكم أو المحامي أو الخبير أو السنديك أو الشاهد، بقصد التأثير على مناعته أو رأيه أو حكمه أو لمنعه من القيام بواجبه أو بمهمته، يُعاقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات، وبالغرامة من 200 ألف ليرة لبنانية إلى مليوني ليرة». وتشتد هذه العقوبة، بحسب نص الفقرة الثانية من المادة المذكورة، حيث إنه «إذا انطوى التهديد على وعيد باستعمال السلاح أو بالاعتداء على الأشخاص أو الأموال، أو إذا اقترن بأحد هذه الأفعال، عوقب بالأشغال الشاقة المؤقتة».


جريمة في صيدا... قبل 11 عاماً

ليست كل التهديدات التي يتلقاها بعض القضاة «فارغة»، إذ إن بعضها يمكن أن يتحول إلى واقع، وهذا ما حصل فعلاً في صيدا قبل أكثر من 11 عاماً، حيث اغتيل أربعة من القضاة خلال وجودهم في قصر العدل ـــ صيدا، وهم: حسن عثمان، وليد هرموش، عماد شهاب وعاصم أبو ضاهر. استطاع الفاعلون، الذين لم يبتّ القضاء أمرهم حتى اليوم، تنفيذ تهديداتهم، فكانت النتيجة اغتيال أربعة قضاة لا يزال زملاؤهم يحيون ذكراهم في كل عام. وخلال العام الجاري، أصدرت نقيبة المحامين في بيروت بياناً بمناسبة الذكرى الحادية عشرة لرحيل القضاة الأربعة، فقالت: «قضاتنا الكبار الأربعة قضوا باسم الشّعب اللبناني، قضوا شهداء الواجب، فهل للشّعب اللبناني، ولمن يحكمون باسمه أن يحكموا لهم ولكرامة لبنان».