المستشفيات بيضاء، تفوح من أروقتها روائح المطهّرات. المشهد كئيب بالنسبة إلى البعض. لكن الحياة ملوّنة، والفن حيوية وحراك. لمَ لا تتحوّل المستشفى إلى غاليري؟ إدارة مستشفى رزق الجامعي، بالتعاون مع مؤسسة رواق البلقاء الأردنية، قرّرت بثّ ألوان طلاب جامعة LAU في أروقة المرض
رنا حايك
«هنا نأخذ وقتنا»، تقول اللافتة المعلقة على مدخل الطابق السادس في مستشفى رزق الجامعي. في إحدى غرف الطابق قيد الإنشاء، تمسك أنطوانيت، المعالجة الفيزيائية في المستشفى، الريشة بتردّد، فهي غير واثقة من قدرتها على الرسم. كانت تلك هواية انطوت صفحاتها قبل أن تتشكّل معالمها تماماً مع الطفولة، لكن وجود الفنان الأردني خلدون الداوود في المستشفى، بألوانه الكثيرة، وحماسته الفائقة لتعميم الفن كـ«لغة حوار يومي»، أعادت إليها روتيناً منسياً من دفاتر الطفولة. في الغرف الأخرى موظفون من الإدارة، وأطفالهم، «غاطسون» في الألوان. أما في الحديقة، فهناك عشرة طلاب من الجامعة اللبنانية الأميركية يرسمون لوحات ستعلّق جميعها في أروقة المستشفى ابتداءً من 25 أيلول، بعد افتتاح معرض يضمّ 250 لوحة من أعمالهم وأعمال الداوود، يتوّج ورشة العمل الفنية، «بلسم»، التي بدأت منذ 15 أيلول. «جاءت الفكرة عندما كنت أعود بنت صديقي، السفير اللبناني في عمان، في المستشفى هنا. لمَ يكون الجو كئيباً في المستشفيات؟ لمَ لا نجعله مرحاً للموظفين والجسم الطبي والمرضى؟ فالفن وسيلة ممتازة للتخفف من ضغوط العمل والمرض والحياة عموماً»، يشرح الداوود، صاحب مؤسسة رواق البلقاء الأردنية للفنون، الذي لقي تطوّع مؤسسته لتنظيم ورشة عمل فنية ترحيباً من الدكتور إيلي بدر من LAU وإدارة المستشفى الجامعي التي تكفّلت بمصاريف الورشة. «هدفنا إشراك الجميع من طلاب وموظفين ومرضى في العملية الفنية، فالفن هو عادة يومية وجزء مهم من حياتنا ومن رقيّ أي مجتمع عموماً» كما يشير الداوود الذي ارتأى تسمية الورشة بلسم تيمناً بابنة صديقه التي عادها في المستشفى ذاته منذ فترة، فاسمها يطابق روحية الورشة والهدف منها.
«بعض الأطباء في المستشفى وعدونا بالمشاركة أيضاً، كما أننا سنزور قسم الأطفال ونشركهم معنا في الرسم من أسرّتهم، أما من يستطيع مغادرة سريره، فنرحب به في أي وقت معنا، أصلاً يزورنا خلال الورشة في الحديقة بعض النزلاء، ويقضون وقتاً لطيفاً مع الشباب وهم يرسمون، كما تشرح سهى الداوود، مديرة الغاليري التابع للمؤسسة في عمّان، لافتة إلى أنها ليست المرة الأولى التي تقوم بها المؤسسة الملحقة حالياً بدار ينشر الكتب الفنية والأفلام الوثائقية، والتي تطمح إلى التحول إلى كلية فنون لاحقاً، بورشة فنية، بل إن تجارب أخرى سبقتها في جامعات عمان والإمارات ومدارسهما، لكنها المرة الأولى التي تدور في مستشفى.
«لقد أثبتت إحدى الدراسات أن الألوان الفاتحة تريح نفسية المريض وتساعده على الشفاء، لذلك أختار الألوان الفاتحة بعناية وأنا أنجز هذه اللوحة التجريدية» يقول محمد أبو يونس، الطالب في السنة الثانية من اختصاص التصميم الغرافيكي في LAU، الذي يشارك في الورشة يومياً من التاسعة صباحاً وحتى الرابعة من بعد الظهر. غنى عيتاني، زميلته، تشارك لأنه «حيفيدني عالـCV وهو بمثابة تمرين على مادة الرسم التي أدرسها في الجامعة». أما حمزة رضا، الذي يتحضر للتخرج خلال العام المقبل من قسم الهندسة، فهو يشارك لأن «الهندسة قريبة جداً من الرسم، وهما يكملان بعضهما الآخر، فالمراحل الفنية المتعاقبة تنعكس دائماً على أساليب التصميم الهندسي المتّبعة». هنا، يحظى حمزة بفرصة تجربة الرسم بالأكريليك بعدما كان يرسم دائماً بالزيت، بينما تحظى زميلته، روان قرقوطي، بفرصة هي الأولى في الرسم على القماش.


حمير خلدون الداوود

لم يكمل الفنان الأردني الذي يدير ورشة «بلسم» في مستشفى رزق تعليمه الجامعي، ولم يعد يذكر متى بدأ يرسم. فهو، إلى جانب الرسم، يقوم بالكثير: يعزف على البيانو، ينتج أفلاماً وثائقية معظمها حوارات يجريها مع أدباء وفنانين مخضرمين، ينشر كتباً، يدير ورشات فنية، ويصوّر... حميراً. «كتير اتضحكوا عليي لما عملت معرض صور لحمير كان نتيجة عمل سنتين» يقول الداوود المفتون بـ«صوفية وسكينة وتأمّل الحمار». ذلك الحمار الذي يعترف له بجميل «حمل المياه إلى بيت الأسرة في الطفولة»، والذي خصّه توفيق الحكيم بعمل أدبي، والذي قلما يتحرّك «على عكس العصفور اللي بيهلك ربّك إذا بدّك تصوره، والبورتريه اللي بيشبه بعضه والطبيعة اللي بيتغيّر شكلها من فصل لآخر».