بيريت أو بيروت الرومانية تبرز إلى العلن يوماً بعد يوم في أرجاء العاصمة. قطع فسيفساء تزين أرضيات «الفيلات»، أسوار عملاقة كانت تحيط بالمدينة الغنية
جوان فرشخ بجالي
«فيلا» رومانية مؤلفة من 15 غرفة كشفت في بيروت، في منطقة ميناء الحصن (قرب مبنى ستاركو). أرضية إحدى غرفها كانت مغطاة بقطعة من الفسيفساء رائعة الجمال، تصل مساحتها إلى 32 متراً مربعاً، وقد حوفظ على 80% منها. الإطار الخارجي للوحة مزين بأشكال هندسية ثلاثية الأبعاد. أما في وسطها، فقد صور مشهد يبرز فيه خيال يقطع مياه النهر حيث تسبح التماسيح وتغط العصافير البرية... يقول عباس صايغ، عالم الآثار المسؤول عن الحفريات الأثرية في هذا الموقع: «يدعى هذا المشهد «نهر النيل»، وهو من اللوحات التي تصور عادة على قطع الفسيفساء الرومانية. من المرجح أن تكون الصورة هي نفسها، وخاصة أن بعض الطيور المصورة أفريقية النوع، وكذلك التماسيح، وما زال هناك حرف النون من الكتابة التي كانت تغطي الأرضية». ويؤكد الصايغ أن العمل يجري حالياً للبحث في إطر ترميم الأرضية والمحافظة على الفسيفساء التي سترفع من مكانها. لكن الأهم أن لا «توضع في مخازن المديرية العامة للآثار من دون ترميم. بل من الضروري العمل على المحافظة عليها بأكثر الطرق العلمية لعرضها لاحقاً. فهذه القطع الفنية يجب ألّا تترك دون ترميم؛ لأن العفن وأمراضاً طفيلية أخرى تهاجمها وتشوهها».
الجدير ذكره أنه خلال حفريات بيروت عُثر على ما يزيد على 800 متر مربع من قطع الفسيفساء، رُفعت ووُضعت في مخازن المديرية العامة للآثار، على أمل توفير مبالغ ترميمها يوماً «لإعادتها إلى الحياة» عبر عرضها في المتاحف أو المباني التي اكتشفت في داخلها. لكن، على الوعد باقون!
وقد عُثر على هذه القطعة الفنية في العقار الرقم 1363 (ميناء الحصن) حيث يعمل فريق لبناني ـــــ هولندي بإشراف المديرية العامة للآثار. ويقول صايغ إن «موقع «الفيلا» الرومانية عرف ثلاث حقب كبيرة. فالبناء الكبير استعمل في الفترة الممتدة من القرن الأول إلى الرابع الميلادي، ثم حصل زلزال سنة 551، فدمر منطقة ميناء الحصن بأكملها وهجرت حتى بداية القرن التاسع عشر. لكن خلال هذه المدة تحول استعمال المدينة الرومانية إلى مقلع للحجارة المنحوتة. فقد أبدت الحفريات أن حجارة المبنى كانت تأخذ لتستعمل في مكان آخر. وبقي الوضع على حاله حتى القرن التاسع عشر. حينها، بدأت عملية تدمير المعالم الرومانية خلال عملية حفر أساسات البيوت التي شيدت لاحقاً في المنطقة. ودمرت أرضية غرف «الفيلا» الرومانية هذه إلا ثلاثاً منها، إحداها غطيت بهذه التحفة».

يبقى السؤال عن أهمية ترميم الفسيفساء
ومعالم بيروت الرومانية لا تتوقف على منطقة ميناء الحصن. فحفريات الإنقاذ التي تشهدها العاصمة حالياً تسلط الضوء في أكثر من موقع على أهمية هذه المدينة أيام الإمبراطورية. ويشرح الدكتور أسعد سيف أن «في منطقة رياض الصلح، عثر الفريق التابع للمديرية العامة للآثار على جزء من سور المدينة، ويبلغ طوله 18 متراً وعرضه 8 أمتار. وهو في عمق يراوح بين خمسة واثني عشر متراً من مستوى الطريق العام». اكتشاف هذا المعلم يعيد النظر في المراجع التاريخية عن العاصمة. فلم يذكر أي منها سوراً لبيروت، لكن الحفريات أبرزت المعلم الضخم. ويشرح الدكتور سيف أنه لا يستطيع بعد، «تحديد دواعي استعمال هذا السور وما إذا كان دفاعياً عسكرياً فحسب، أو لأسباب تتعلق بالسيول في فصل الشتاء، أو أن هناك احتمالات أخرى لاستعماله ولضرورة بنائه؟ هذا ما ستؤكده الحفرية الأثرية التي ستتابع على الموقع لاحقاً ريثما تنتهي الشركة العقارية من تدعيم المقاطع المحيطة، ما سيسمح بتوسيع رقعة التنقيبات».
أما عن مصير هذا الجدار، فيبقى السؤال مفتوحاً للمزيد من العمل على الأرض تحدد من بعده مصير المعلم: إما المحافظة عليه في مكانه، وإما تفكيكه ونقله إلى مكان آخر أو إزالته.
ومن مجمل الحفريات في بيروت، بتَّ وزير الثقافة سليم وردة مصير قطعة الفسيفساء البيزنطية التي عثر عليها خلف مبنى العازارية، في العقار التابع لشركة Towers Plus عند الطريق العام وتزينها رسوم هندسية ثلاثية الأبعاد، ما دفع الوزير إلى التأكيد أنها ستبقى في مكانها، وستُرمَّم لتصبح معلماً أثرياً آخر في وسط بيروت. ويقول سيف إن المبنى الذي تزينه قطعة الفسيفساء هذه لا يزال جزء منه مدفوناً تحت الطريق الحالية، لذا ربما جرى، مستقبلاً، نبشه وتنقيبه ليصبح المبنى المكشوف للعامة متكاملَ الأجزاء.