قبل 28 عاماً، كان الموت حدثاً عادياً في زواريب شاتيلا. كان يمر ببطء قاتل، وهو يسوق في طريقه آلاف الهاربين من موتٍ سابق. مرّ فأصبحوا جثثاً، ولم يعتذر أحد لقتلهم
راجانا حميّة
في غروب يومٍ كهذا، دخل القتلة الممتلئون كراهية زواريب فقراء. أشبعوها قتلاً. داسوا جثثاً، ولم يكترثوا. 3 أيام من مخيلة جهنمية. عبث القتلة بكل شيء: أذلّوا الأحياء. اغتصبوا بناتٍ وأطفالاً... وجثثاً. شوهوا. قطّعوا ولم يشبعوا. والأهم أنهم حتى اليوم طلقاء.
مرت السنون. لا شيء تغير في الذاكرة. صراخ الموتى لا يزال عالقاً في آذان الناجين. كلما اقتربت الذكرى، تقفز المشاهد المختبئة إلى الوعي. تعود المجزرة بأمواتها، كأنها تحدث الآن. تصبح الذاكرة جلاداً.
في شاتيلا أمس، يعود كل شيء إلى الواجهة. حتى الحركة تتغير فيه، تصبح بيوته هدفاً لعدسات الكاميرات والمتضامنين. لكن، لا أحد يشعر بتلك العودة، إلا الناجين الذين باتوا قلة. فبعضهم مات، وآخر هاجر إلى غير رجعة وثالث ثقب العمر ذاكرته.
على مقربة من مدخل سوق صبرا، تقطن شهيرة أبو ردينة، الناجية من المجزرة، في المكان نفسه الذي قُتل فيه والدها وشقيقتها وشقيقها وزوجها وابن عمها وابنته وزوجها وجنين أخرجوه من رحم أمه بالحربة. تتذكر ليل 16 أيلول 1982. في ذلك الليل، «انرش» الحي بالرصاص. كان صوت ارتطام الطلقات يشبه صوت حبات البَرَد عندما تصطدم بالنوافذ. كان المختبئون داخل تلك الغرفة المسقوفة بالزينكو، ينتظرون موتهم.
اشتد الرصاص واقترب. خرجت عايدة، شقيقة شهيرة تستطلع الأمر. لم تكد تنزل درجات السلم، «حتى رشّوها». سمع المختبئون صوت الرصاص يمزق جسدها... واستغاثتها «يابا»، الذي خرج هو الآخر ليموت بالسلاح نفسه.
أضاعت شهيرة جثّة شقيقتها حين أُخذت إلى المدينة الرياضية
الواحدة فجراً. علت صرخات في الخارج. تيقن المختبئون أن مجزرة تحصل. بقوا حيث هم، إلى أن دخل القتلة إليهم. فصلوهم نساءً ورجالاً. صفوا الرجال إلى الحائط ورشوهم. تسمرت عينا شهيرة على جسدَي شقيقها وزوجها الممزقين بالرصاص، وعلى الفأس التي علقت في رأس ابن عمها. لم تبك، لأنهم منعوها من ذلك. مشت فوق جثثهم، وهي خارجة مع النسوة والأطفال إلى المدينة الرياضية. 3 أيام، عاد الهاربون. كانت اللحظة قاسية. عادت شهيرة لتدفن أجساداً تعفنت تحت أسراب الذباب في المقبرة الجماعية التي ملأتها جرافة القتلة بضحاياهم، بإشراف جنود الجيش الإسرائيلي. اليوم، في حضرة الذكرى، ثمة ما يؤلم شهيرة: جثة شقيقتها التي أضاعتها حين أُخذت إلى المدينة الرياضية، والدعوى التي تقدمت بها هي وعائلات الشهداء عام 2001، والتي لم يُسمع منها خبر إلى الآن. «كأنها توقفت»، تقول عن الدعوى. ثم تضيف: «في عام 2007، على أساس حضّرنا الباسبورات بناءً على طلب المحاميين شبلي الملاط ومايكل فيرغي لتقديم شهادتنا في بلجيكا، لكن في اللحظة الأخيرة أُلغي كل شيء». هكذا، لم يبق لهم إلا صورة عن توكيل المحامي وصور الضحايا بالأبيض والأسود. ذكرى سيئة إضافية.
على بعد شارعين من منزل شهيرة، في غرفة «فوق السطوح»، تعيش أم حسين البرجي، زوجة شهيد وأم 4 شهداء. كانت تأمل ألا يطال أولادها الموت، لأنهم من جنسية القتلة، لكن عبثاً. جرفت حمّى القتل كل شيء.
حين طرقنا بابها، كانت أم حسين تعرف أن بيتها الصغير لن يفرغ من الزوار في مثل هذه الأيام، فهي الوالدة والزوجة المفجوعة والسيدة التي تناقلت صورها وسائل الإعلام عندما كانت تصرخ لهول مصيبتها. تحمل أم حسين صورتها الشهيرة، وتجلس على الكرسي إلى جانب صور الأربعة. تتذكر رأس طفلها الذي فصل عن جسده الطري. زوجها وابن سلفها الذي «نبش والده قبره لرؤيته». تتذكر ليل المجزرة الذي أضيء بقنابل الإسرائيليين لكي يرى القتلة طريقهم، «حتى الإبرة كان فينا نشوفها على الأرض من الضو».
حال أم حسين أشفى حالاً من أحمد الخطيب، الناجي الذي لم يرَ من أفراد عائلته العشرة إلا بطاقة هوية لأحد أشقائه. لم يعرف الخطيب كيف مات أهله، لكن جاره الشيخ خليل عزوقة أخبره كيف أطبق المقاتلون سقف «الكاراج فوق رؤوسهم وهم أحياء»، وهو الرجل الذي قضى 4 أيام فوق الشجرة القريبة من منزل الخطيب. حتى هذه اللحظات، يحتفظ الخطيب بأوراق بعض المقاتلين الثبوتية، ربما يحتاج إليها «يوماً ما»، وخصوصاً أن «الدعوى ما عدنا سمعنا فيها من كم سنة». هكذا، بعد 28 سنة، لم يبق من صبرا وشاتيلا إلا الباحة التي سمّوها مقبرة الشهداء. تلك المقبرة التي نقف فيها على الجثث التي رمتها جرافات المقاتلين ذات أيلول. لا حل لمنع الأقدام من الوقوف فوق الأموات إلا بزرع شجرة في كل ذكرى، فإلى كم «ألف شجرة» تحتاج تلك البقعة للحفاظ على حرمة الموت المستباحة؟