شهد ولادة «تلفزيون لبنان» وعاش أيام عزّه قبل الحرب... ثمّ عاد إليه مطلع التسعينيات ليجده مؤسسةً ممزقة تنخرها المحسوبيات. المهندس الذي ولد في إسكندرون، وعاش طفولته في عين المريسة، بدأ حياته المهنية مغنّي «روك أند رول»، وانتهى اليوم على رأس «السومريّة»
محمد محسن
الرجل السبعيني قلق على طفولته. معالم الحيّ الذي شهد على ضحكاته ولعبه مع الموج، تلاشت... حتّى البحر، لو لم يكن قوياً، لأزالته الهجمة العقارية على حي عين المريسة عند واجهة بيروت البحريّة. هناك، لعب جان كلود بولس مع أصدقائه من دون أن يعرف طوائفهم. لم يكتشف مثلاً أن زميله هنري جاموس، يهودي، إلا عندما امتنع عن دخول الكنيسة للمشاركة في القدّاس. منذ فترة، مرّ في الشارع حيث كان يسكن مع أهله. حتّى وقت قريب، كان منزل عائلته آخر المنازل الباقية، قبل أن يقوم على أنقاضه بناء ثقيل شاهق. الرجل السبعيني قلق. لم يجد معلمة الباليه الروسية التي كان معجباً بها منذ طفولته. بائع الفستق والقضامة، رحل هو الآخر. القطة والكلب اختفيا من حديقة المنزل الهادئ. لم يبق شيء. وحدها صور في ذاكرته، يحكي عنها بشغف. بسبب الحرب العالمية الثانية، عاش متنقلاً مع عائلته، من الإسكندرون إلى طرابلس في شمال لبنان، وصولاً إلى عين المريسة. عاد والد جان كلود بولس إلى لبنان عام 1939 ليسكن قرب مرفأ طرابلس، وكان يدير شركة للبواخر.
عام 1945 بدأت حياة جان كلود في عين المريسة. تتلمذ في مدارس «الفرير» البيروتيّة، قبل أن ينتقل إلى «الجامعة اليسوعية» لدراسة الهندسة. في تلك المرحلة، كان «الدينامو في كتابة التمثيليات وتلحينها. كنّا نعدها ونقلّد أساتذتنا في نهاية العام الدراسي، ونبدأ بإعدادها قبل مئة يوم». أوصله شغفه بالموسيقى الغربية إلى نادي «فلامينكو» في عين التينة، ليصبح من أوائل مغنّي «الروك أند رول» في لبنان. من خلف مكتبه في مبنى قناة «السومرية» العراقية في لبنان، يروي مبتسماً كيف كان نواب أبرزهم عميد الكتلة الوطنية السابق ريمون إده، يقتربون من المسرح ليشاهدوا الشباب والصبايا يرقصون على أنغام «الفن الجديد». أدى أدواراً مسرحية كثيرة منذ طفولته، لكنّ أكثر دور برع فيه، كما يقول، هو «مريض بالوهم» لموليير. ربّما، لم يكن بولس يتوقّع أن يتحوّل من مؤدٍّ لدور مريض خيالي، إلى معالج لمريض حقيقي كان «تلفزيون لبنان».
لكن قبل هذه المرحلة المهمة جداً، عاش المهندس عام 1959 تجربته الهندسية الأولى، حين أوكَلت إليه «إدارة الطرقات والمباني»، ملف أوتوستراد أنطلياس. بعد الأوتوستراد، لم يتردّد جان كلود في قبول طلب الإشراف على بناء «تلفزيون لبنان». وضع الخطط من الأساسات حتى عمود الإرسال. خلال هذه الفترة، احتكّ بولس بمهندسين وخبراء فرنسيين حضروا لتدريب الموظفين اللبنانيين على تقنيات الصحافة واستعمال أجهزة العمل التلفزيوني. قبل رحيلهم، أوصوا به مديراً للبرامج. هكذا، بدأ حياته الإعلامية، بعد قبول إدارة التلفزيون للتوصية الفرنسية.
قدّم برامج كثيرة على القناة 7 حين كان للبنانيين تلفزيونهم الذي يحبونه. اندلعت الحرب الأهلية، وغادر جان كلود التلفزيون. جنح نحو الإعلانات، وأسّس شركة له مستفيداً من غياب المؤسَّسات الإعلانية عن مناطق وتمركزها في مناطق أخرى بسبب الحرب... أولى المهمات الإعلانية التي نجح فيها: إعادة توضيح عناوين مؤسسات كثيرة للمواطنين. ببساطة سهلة ممتنعة، يشرح بولس الفارق بين الإعلاني والإعلامي. فالأول «هو من يبيع المادة الإعلامية، أما الثاني فهو من يخلقها. الفرق شاسع بين ذهنية إبداعية وذهنية تجارية». لكن، ليس سهلاً أن تمتلكَ الذهنيتين وتوائِم بينهما. هذا ما حصده بولس بعد عمله في تأسيس «تلفزيون لبنان» وعمله في شركته المستقلّة للإعلانات.
كان عام 1996 نقطة تحوّل في حياته، حين طلب منه رئيس الجمهورية حينها الياس الهراوي ترؤس مجلس إدارة التلفزيون الرسمي... هكذا بدأت «الرحلة إلى الجحيم» كما عنون كتابه الذي عرض فيه تجربته في «تلفزيون لبنان». كان هدفه «جعل «تلفزيون لبنان» شاشة اللبنانيين المفضلة». لكن توالت المشاكل وأولها أعداد الموظفين المعيّنين «بالواسطة»، رغم عدم تأديتهم لأي عمل يذكر في التلفزيون. وحين كان يطالب الزعماء السياسيين بالتخلص من هذا العبء القاتل، كان يأتيه الجواب واضحاً: ادفع تعويضاتهم. علماً بأنّ التعويض كان يُضاعَف 3 مرات إذا كان الطرد «تعسفياً».
المشاكل لم تنته عند هذا الحد، كما يخبرنا، بل ازدادت نحو إضرابات أسبوعية ينظمها نقيب موظفي التلفزيون آنذاك الياس أبو رزق، «تعوق حركة العمل، وتفقد المعلنين الثقة بالمؤسسة». أمّا الوضع المالي فكان الطامة الكبرى: «الدولة لا تخصص شيئاً يذكر من ميزانيتها لـ«تلفزيون لبنان». والأرقام تبدو مخجلة. كأنّ الدولة كانت ترغب بقطع اللسان الناطق باسمها».
في حساباته، يحتاج التلفزيون سنوياً إلى مبلغ يراوح بين 15 و18 مليون دولار ليكون منافساً.

أشرف على بناء التلفزيون واضعاً الخطط من الأساسات حتى عمود الإرسال

الرجل السبعيني أضاع ذكريات طفولته بعد تغيّر حيّ عين المريسة
هنا يروي حادثة تلخّص نهج أركان الدولة حينها في تهميش التلفزيون الرسمي لحساب القنوات الخاصة التي امتلكها الزعماء. «ذات يوم سأله وزير المال فؤاد السنيورة: «من أين آتي بأموال لـ«تلفزيون لبنان»؟ أصلاً لماذا أعطي أموالاً لـ«تلفزيون لبنان» ما دام كغيره؟» فأجابه بولس: «ولماذا تمنحون الرخص للتلفزيونات الأخرى، ما دامت هي مثل «تلفزيون لبنان»؟». أمّا السياسيون فتعاملوا مع تلفزيون الدولة كما الدولة، قطعة جبن تُوزَّع في ما بينهم. هنا نائب يطالب بمصوّر يلاحقه في كل نشاطاته، والرؤساء والرسميون مهتمون بسماع أخبار استقبالاتهم ووداعاتهم.
يتحدّث جان كلود بولس عن هذا الكابوس كأنه ما زال يعيشه. لم يشف أبداً من تلك التجربة. يلفت إلى أنّه أحرز تلك الأيام بعض التقدّم رغم العوائق. جمع حوله بعض الموظفين المنتجين والكفوئين... وكان أن نقل تلفزيون لبنان كأس العالم في كرة القدم 1998، ما منحه إيرادات مالية «سمحت لنا بأن «نتفرفش» قليلاً، وننتج برامج جديدة لاقت صدىً. كنا أول من استعمل الهاتف في برنامج ألعاب. سنترال المزرعة كانت تُشغَل خطوطه كلها أثناء برنامج «آلو نعم»». المهم، تلك حكاية قديمة. بعد ثلاث سنوات من المعاناة في تلفزيون الدولة، عاد بولس إلى عمله في شركة الإعلانات، وتسلم إدارة قناة «السومرية» العراقية في عام 2004. أبو ناجي، خالف رغبة والدته وسمّى أبناءه الثلاثة (صبيتان وشاب) أسماءً عربية. فقد تجاوز مشكلته مع اللغة العربية وبات يتقنها. مع ذلك، بقي شغوفاً بالموسيقى الغربية. قلَّما يغني على أنغامها حالياً، لكنّه يرقص كلّما سنحت له فرصة للفرح.


5 تواريخ

1934
الولادة في إسكندرون

1957
حاز دبلوماً في الهندسة
من «الجامعة اليسوعية»

1996
تسلّم مجلس
إدارة «تلفزيون لبنان»

2004
تسلّم إدارة تلفزيون
«السومرية» العراقي

2010
يخصص وقته لعمله
في «السومريّة»، ويعمل حالياً
على تنظيم الإعلانات