كان منتظراً أن تستملك بلدية بيروت أربعة بيوت تراثية في زقاق البلاط، ولكنها رفضت طلب قصري حنينة وزيادة، وتبقى المخاوف قائمة حول مصير منزل السيدة فيروز وقصر بشارة الخوري بسبب المماطلة في إنهاء المعاملات
جوان فرشخ بجالي
بعد مضيّ سنتين على قرار بلدية بيروت، الذي يحمل الرقم 977 لاستملاك بيتَي السيدة فيروز والشاعر بشارة الخوري في زقاق البلاط، لا تزال المعاملات تدور في أروقة الدولة اللبنانية. وفي 20 من الشهر الحالي، حطّ الملف رحاله في وزارة الداخلية تحت الرقم 4011، وهو الآن بانتظار توقيع الوزير بارود عليه ليحال على وزارة الأشغال العامة، لكي يوقّعه الوزير العريضي، وحينها يدرج على لائحة الملفات التي ستطرح أمام مجلس الوزراء ليبتّها. سنتان من الرسائل والقرارات، كاد البيتان خلالهما أن يُهدما، وخصوصاً بيت السيدة فيروز، الذي تقدّم صاحبه بطلب لهدمه بعد إصدار قرار تحويله للمنفعة العامة من جانب بلدية بيروت! أما بالنسبة إلى قصر آل الخوري، الذي يعدّ من أجمل بيوت بيروت على الإطلاق، فإن سقفه المرسوم والمزخرف مهمل بطريقة ملحوظة. من هنا أهمية المطالبة ببتّ التواقيع في أسرع وقت ممكن، حتى يصبح ممكناً تدعيم الجدران والسقف لحمايتهما من الأمطار. يُذكر أن فكرة المحافظة على هذين البيتين وُلدت بعد مشاركة مدينة بيروت في «مشروع أرخميدس» المموّل من الاتحاد الأوروبي، والرامي إلى إعداد دراسة معمقة عن الإرث المعماري والسبل الكفيلة بالمحافظة عليه وحماية ما يمثله للشعوب من ذاكرتها لتاريخها. وحينها أعد مرصد مجال (جامعة ألبا ـــــ البلمند) دراسة تفصيلية عن منطقة زقاق البلاط، والنسيج العمراني الذي تحافظ عليه. ويتكوّن النسيج العمراني من البيوت القديمة المحافظ عليها في أزقّتها، التي تحيط بها دكاكينها وحرفيّوها، وسكانها الذين يحافظون على طريقة حياة خاصة بهم. وزقاق البلاط هي من المناطق القليلة جداً في بيروت التي لا تزال تحافظ على هذا النسيج العمراني، لذا كان لا بد من العمل على إبقاء بعض من شواهد هذه الخصائص، فاختير قصر آل الخوري ومنزل السيدة فيروز عيّنة من بيوت زقاق البلاط التاريخية. وكانت بلدية بيروت الشريك الأساسي في مشروع أرخميدس في بيروت، لذا كان لا بد من تطبيق بعض النظريات المحافظة على المباني الأثرية، فأقرّ مجلس البلدية «المنفعة العامة» على العقارين، ثم بدأ العمل على استملاكهما «كمرحلة أولى تمهيداً لترميمهما وتخصيصهما لاستعمالات ثقافية، فنية، أدبية وغيرها، حفاظاً على الموروث المعماري» كما جاء في قرار مجلس بلدية بيروت رقم 977.
وفي خطوة منها لتأكيد المحافظة على مصير هذين المنزلين، أدخلت وزارة الثقافة في شهر تموز الماضي هذين العقارين على لائحة الجرد العام للأبنية التراثية. وجاء في التقرير أن إدراج هذين العقارين «هو لما يمثّلان من أهمية تراثية من حيث النمط الهندسي والعناصر المعمارية، كشاهد على مرحلة مهمة على المستوى التاريخي والثقافي والوطني». والجرد العام هو لائحة للأبنية الأثرية، أو التاريخية أو تلك التي أدّت دوراً مهماً في الذاكرة الجماعية. وإدراج عقار على هذه الائحة ليس استملاكاً له أو نزعاً لملكيته، بل هو شهادة رسمية بالأهمية التاريخية والهندسية للمبنى، وضرورة المحافظة عليه كحق عام. لذا، يترافق الإدخال في الجرد العام مع قيود على أصحاب العقار، الذين لا يحق لهم القيام بأي عملية ترميم أو صيانة من دون الموافقة المسبقة للمديرية العامة للآثار. في المقابل تقدّم الأخيرة خبراتها الفنية وخبراءها من دون أي بدل أتعاب. ويجري العمل عندها على إجراء الترميمات التي تسمح بتطوير العقار بطريقة تتماشى مع متطلبات العصر الحالي ضمن إطار المحافظة على قيمته الهندسية والتراثية. طلب الإدخال في الجرد العام يمكن أن يتقدّم به صاحب العقار أولاً، أو حين يشعر المجتمع المدني بالخطر على بناء تاريخي ما، فتتقدّم في حينه جمعية (مرخص لها) تُعنى بالحفاظ على التراث والآثار، أو نقابة المهندسين أو المجلس البلدي لقرية أو مدينة ما بهذا الطلب. وهذا ما حصل بالنسبة إلى هذين العقارين اللذين عمل المجتمع المدني على إدراجهما. وحتى إصدار قرار مجلس الوزراء الذي يسمح لبلدية بيروت بدفع التعويضات لأصحاب العقارات واستملاكها، يبقى موضوع المحافظة على هذين المعلمين معلّقاً، مع خطر الرجوع عنه.
فهناك من جهة، حال المنزلين التي لا تبشّر بالخير، ومن جهة ثانية، قرار من مجلس بلدية بيروت صدر أخيراً يرفض استملاك قصري حنينة وزيادة في زقاق البلاط، رغم إدراجهما على لائحة الجرد، ورغم أهميتهما التاريخية والهندسية. فهذان القصران شاهدان على النسيج العمراني الخاص ببيروت في بداية القرن العشرين، وعاشا تاريخ العاصمة بتفاصيله الصغيرة والكبيرة، وسكانهما كانوا من الأعيان، لكن البلدية الحالية لم ترَ أنّ لهذا الاستملاك أولوية، فرفضت الطلب بحجة الحاجة إلى تأمين مرائب للسيارات! من هنا يمكن التساؤل عن أهمية التراث والمباني الأثرية في بيروت بالنسبة إلى مجلس البلدية الحالي. فهل سيعمل حقاً على المحافظة على ما بقي من هوية العاصمة، أم أنه سيدعم المقاولين في مشاريعهم التجارية؟
بيتا فيروز وآل الخوري يمثّلان اليوم النموذج الذي يمكن من خلاله الحكم على نظرة المجلس البلدي إلى التراث. هل سيستملك سريعاً ليسارع، فعلاً، إلى أعمال الترميم والتأهيل، أم سيغضّ النظر على أمل أن تنهار الجدران ويقع تاريخ بيروت على أرصفتها الضيقة.